مالك مسلماوي
"من أجل تموز حبيب صباك/ قد قضيت بالبكاء سنة بعد سنة
لقد أحببت طير الشقراق المرقّش/ ولكنك ضربته بعصاك وكسرت جناحه
وها هو الآن حاط في البساتين/ يصرخ نادبا
جناحي جناحي ..
من ملحمة جلجامش.*
طيور ملوّنة هذا الصباح تحتفل في قفص رحب، تطير وتحط وتزقزق طوال الوقت، تحادث بعضها، تمرح وتغني في مشهد جعلني لا اود المغادرة، افتتحت يومي بوجودي مصادفة حرا طليقا لبعض الوقت، اراقب عن كثب هذه الكائنات الملونة وهي تستفتح يوما عاديا غير مكترثة لوجودي، لكنها لا بد تشعر بأنها كسيرة الجناح!... فماذا لو فتحت لها الباب؟ سؤال المراقب لنفسه.. لربما لا يتغير شيء، فالطيور تكيفت مع ظرفها ولا يأتي في حسبانها ان تفرّ او تكسر نمط حياتها الآمنة، واذا ما فرّت وتفرقت في الفضاء وكسرت الروتين الذي اعتادت عليه، فستنتبه بعد حين الى انها كانت في عالم آخر، وتحتاج الى بعض الوقت لتتذوق طعم الحرية وتعود الى الزقزقة واللعب واللغة الفصيحة!، وربما الخوف مما هو غير محسوب في الجديد المجهول.
في غمرة الانشغال بالمشهد انعطفت الذاكرة نحو فضاء الشعر.. نصوص قرأتها امس وقبل الأمس، كانت تدور في اقفاصها، نص على قدر من القناعة، يقول شيئا او لا يقول اي شيء!، فهو يتحرك في فضاء ضيق كطائر (مقفوص).. ونص ثانٍ مسترخِ بلا جدوى يغني او يهذي لكنه يستسلم في النهاية لمصيره المعروف.. ونص آخر متمرد على قفصه يحاول تحطيم كل ما حوله ليحلق بعيدا، فربما نجح او اخفق، بين ان يراجع قناعاته مستسلما او نادبا راثيا جناحيه..
التصالح مع القفص، هذه صورة واحدة من صور القمع المتعدد في هذا الكون، نمارسه بتلقائية وبراءة مرة، وبقسوة مراتٍ عديدة في علاقاتنا الاجتماعية وانشطتنا الانسانية، وينعكس على ممارساتنا الفنية والابداعية. لكن المريب ان نتعامل مع اقفاصنا برضا وقبول!، فالأقفاص كثيرة ومختلفة ضمن قفص الكون الكبير. من الطريف أنني عقدت في تلك اللحظة الشعرية مقاربة بين الطائر والنص، وتحديدا النص الشعري المعاصر، وتخيلت النص طيرا، ثم عدتُ وحسبت الطير نصا من مقياس ما، متخذا من مفهوم الحرية والتحرر منطلقا نحو تفكيك ازمة النص الشعري المتأقلم مع ضده في صيرورة معقدة لا تقف حائلا حيال الظهور المجرد، اعني مفهوم (نصية النص) من زاوية، ومدى امتلاكه اشتراطاته الشعرية من الزاوية الثانية، او كونه يعاني من البراءة المفرطة من جهة وعدم حسبان ردة فعل المراقب/ القارئ من الجهة الاخرى...
أعود وأقول: الطير (المقفوص) محاصر، لكنه يبقى طيرا يتوفر على ما يجعله يمارس حياته بشكل ما، ويعبر عن مواهبه في الغناء واللعب كاشفا عن الاستسلام التام للأمر الواقع. وفي المحصلة يبقى طيرا على الرغم من كل شيء. فالمقفوص مقموع يفقد القدرة على التحليق ابعد مما يسمح به القفص.. وان وضعنا النص في المعادلة ذاتها، نجده يعاني من القمع من هنا وهناك، وهذا لا يسلبه شعريته بل ربما يمكنه من الارتقاء وشحذ المخيلة. وللتوضيح اجنحة معطلة تحت قوامع من جهات متعددة، فهو محكوم بقفص المحظورات المجتمعية المعروفة: الدين/ الجنس/ السياسة.. ثلاث دعامات رئيسة يتهيكل منها قفص النص، ومن جراء ذلك يجرب الاختباء وراء قناع ما، او يتخذ غطاء رمزيا للمرور. وفي هذا تفسير لاتساع الفضاء (الرومانسي) والرمزي في الشعرية العربية للابتعاد عن الوقوع في المحظور، واصبحت صفة الغنائية طابعا طاغيا فيها.. ومن ثم القفص لا يحجب الغناء ولكنه يعطل الطيران.لنقل: هذه الطيور تجيد الغناء لا غير.. لا يقف الامر عند هذا الحد، فالنص يتعرض للقمع بصور مختلفة، فاذا ما تخطى القامع الاجتماعي بصوره المتعددة واجه تحديات أخر. فالطائر حين يفلت من القفص لا يتحرر نهائيا، فهو يبقى حاملا في ذاكرته قفصه وتاريخه الذي يلاحقه على الدوام. ربما الافلات قد يؤدي الى الضياع في فضاء مبهم، فينكفئ النص/ الطائر على ذاته فلا يرى غيرها. وهذا يبرر سمة (الذاتية) في القصيدة العربية.. فالقامع هنا (داخلي) ذو محركات ثقافية سيكولوجية مصدرها الذات، الذات المأزومة المحملة بأعباء الخوف والتردد والنقص.. كل ذلك متعلق بمستوى الوعي والخلفية الثقافية والبنية الاخلاقية..
واذا كان النص هو الشاعر، فالشاعر مازال يعاني الكثير تحت الضغوط والتحديات المشار اليها، فإن نجح في تخطيها واجه التحدي الأكبر الذي لا يتحقق الشعر الا بتجاوزه بدعم من الموهبة والخبرة والذكاء.. هذا التحدي هو (اللغة) ونظامها الرصين نحوا وصرفا و بناء في العلاقة بين المبنى والمعنى .. والاشكالية الكبرى في التحول من هذه اللغة الى اللغة الشعرية التي تتحقق بها فنية النص واستحقاقه صفة الشعر. فالشعر تعبير عن العالم العادي بلغة غير عادية، كما يرى جون كوهين**. واحسب ان النص بلغته لا بمحتواه ومعانيه ابتداءً، لان المعاني الكبيرة وحدها لا تصنع شعرا الا بلغة جديدة مختلفة (اللغة الشعرية)، والحاصل غالبا الاستعاضة عنها بلغة المعنى، ولغة المعنى غير لغة الشعر.. وهذا منزلق في ما نقرأ كثيرا على انه شعر، والحقيقة هو ما يشبه الشعر المتكئ على الاستعراضات
البلاغية.
جلّ ما ينتج من شعر عندنا شعر مقموع محاصر من جهتين: من الخارج (مجتمع)، ومن الداخل (الذات) وهي الجهة الأخطر، وأعني بالذات طبيعة التكوين الثقافي والسايكولوجي والاخلاقي للشاعر، فالذات غير المتحررة تنتج شعرا غير متحرر.. واعني بـ (غير المتحررة) بالمنسجمة مع الواقع والخاضعة له، فهي راضية مرضية بما حولها، فإن نزلت الى ساحة الرفض فهي خائفة مترددة تنشغل بجلد الذات واتهامها بالفشل والخسران. ذات تخشى الخروج من (القفص)، فقد تفقد اجنحتها في المغامرة كما طائر الشقراق في ملحمة جلجامش يصرخ نادبا: جناحي جناحي... فمعظم الشعر الذي نقرؤه الآن لا يخلو من الندب وتكريس الروح السلبية والعقد التاريخية ومجاراة الافكار السائدة محتفلا بالروح التشاؤمية مليئا بالعنف والحزن والانكسار. وعدا الاستثناءات المتفردة في جانب من المشهد الشعري تتراوح القصيدة بين الرمزية المغلقة والصورة المربكة وبين الميكانيكية المتكلفة والتلقائية الساذجة.. والطرق المرهق على الذات بلغة جافة طاردة.
*ملحمة جلجامش/ترجمة طه باقر/ مديرية الفنون والثقافة الشعبية/ وزارة الارشاد /1962
** الدكتور شجاع العاني/ الكتاب التاسع/ إعداد وتقديم د.سلمان داود العنبكي/ دار الفراهيدي- بغداد/ ط1 - 2017