رعد أطياف
لا توجد لدي إحصائية دقيقة بخصوص هذا الأمر، لكني اعتقد ثمة نسبة كبيرة من الأموال تذهب لصناعة الأدوية المسكنة، نظرًا للمطلب المتزايد على هذا النوع من العقاقير. وإذا ضممنا لهذه السلسلة التجارة الرائجة للمخدرات والطلب المتزايد عليها في العالم ونسبة المتعاطين والمدمنين عليها، فضلا عن تجارة الكحول وأرباحها الطائلة، أمكن لنا أن نستخلص هذه النتيجة: إن الألم يحظى بسوق عالمية رائجة، ويحظى بضحايا كثر، ولعلهم مستعدون لإعطاء أي شيء مقابل حياة بلا ألم
وعلى صعيد المسكنات المُرّخَّصُ بها فما من بيت من بيوتنا يخلو من شريط واحد على الأقل من العقاقير المسكّنة. كل هذه العقاقير تسعى لتخدير الالم الجسدي، وكم يبدو وجودنا هشّاً وضعيفاً تجاه الألم، وكم نبدو مثيرين للشفقة ونحن نتلوّى من الألم. جولة واحدة في المستشفيات، لنرى حجم الأنين والصراخ والاستغاثات، كافية لتترجم لنا ماذا يفعل بنا هذا الألم اللعين!.
في زمن النظام السابق، سألت مرة أحد السجناء المدمنين على تعاطي المخدرات: لماذا تتعاطى العقاقير المخدرة؟ اجابني: لكي لا أشعر بطول الساعات الثقيلة، لا أريد أن اشعر بثقل الزمن المدمّر.. أن ساعات اليوم الرتيبة والتي تسير ببطء قاتل تجعل منّي كائنا ميّتا، لكنّه ميّت مؤجل ينتظر دوره في هذا الطابور الطويل.
المهم في الأمر، كل افعالنا واقوالنا هي، على الأرجح، تصريف لفعل واحد: وهو التوق إلى السعادة وتجنب الألم، وهذا المسعى لا تنفع معه كل أنواع المسكنات!، لأنها مسكّنات ظرفية، بل ينفع معه التبصر بحقيقة فناء الأشياء ولا ديمومتها. قد تكون من أكبر المعضلات الوجودية التي سقط بها الكائن البشري هي التعلّق بهذا الشيء الذي يتلاشى؛ بمن تحبهم، بالأشياء الثمينة، بكل شيء يخضع لتيار الزمن.
تصور أنّك تعقد الآمال على الزائل ماذا ستكون النتيجة؟! رغم العدائية والنفور التي يبديها الذهن تجاه هذه الحقيقة التالية، وهي أن ادراك الزوال يؤلمنا للغاية، لكن نقاتل لاثبات العكس، ثم نسأل من اين يأتي هذا الألم؟!.
كل متع الحياة صٌمّمَت من أجل هذا الشأن: نسيان الألم والفوز بقليل من اللذة الوقتية. قد يترجم هذا الكلام إلى نزوع نفسي تشاؤمي يدعو للتقوقع والعدمية، والحقيقة ان خلاصة هذا الكلام، هو التعامل مع الاشياء بمرح وانفتاح وإعطاء فسحة للنفس ان تدرك حقيقة التعلّق، تلك الخطوة الأولى للسعادة غير المشروطة، فالسعادة والتعاسة تحددها طبيعة فكرنا للأشياء كما وضحّنا سابقاً.
لا توجد سعادة في الجيب الأول وتعاسة في الجيب الثاني، بل يوجد فكر يقيم ويحلّل طبقاً لخزين الذاكرة النفسية، وهذه الأخيرة تحدد هويتنا، ومن هذه الهوية تنشأ الكثير من صنوف الألم. ومراقبة هذا التدفق النفسي المستمر يضمن لنا فك اللغز ولو طال بنا المقام، اذ كلما طال ازدادت معه الخبرة العملية، التي نطلق عليها صفة الحكمة. وهذه الأخيرة هي بوصلتنا نحو السعادة.