محمد صابر عبيد
تحتلّ الأمكنة مرتبة عليا في الوجود البشريّ الإنسانيّ على الأرض، وهي نموذج للحضارة وعنوان لها على الأصعدة كافة، فلا حضارة يمكن أن تدوم وتؤسّس لمكانة خاصّة في التاريخ بلا أمكنة تدلّ عليها وتشير إليها وتخلد بها، والأمكنة ذات أشكال وأنماط وصور كثيرة لا حصر لها من حيث الطابع المعماريّ والحضور الإنسانيّ والبُعد الجماليّ والإحساس الوجدانيّ، وغير ذلك من المقوّمات والحيثيّات والتصوّرات التي تجعل من الأمكنة كياناً جوهرياً أصيلاً لا بدّ منه في أيّ وجود حيّ، لأنّ الحياة، أيّة حياة، تبقى ناقصة وعاجزة من دون حضور الأمكنة وتجلّيها بحساسيّتها وروحها وقدرتها على الاحتواء وتوفير الأمان والاستقرار والحريّة.
لا ينبغي النظر إلى الأمكنة من زاوية تكوينها المؤلَّف عادةً من جدران وسقوف وأبواب وشبابيك وغيرها، بل تتخلّل طبقات الأمكنة أفكارٌ ومفاهيمُ وقيمٌ تجعل الصفة المكانيّة أوسع من الوجود المكانيّ الواقعيّ الفعليّ، وتنفتح على فضاءات لها علاقة بالرؤية المكانيّة وقدرتها على اكتناز دلالات ومعانٍ ذات طبيعة سيميائيّة ورمزيّة لافتة، لأنّ الأمكنة التي تكتفي بالمواد الأوليّة المُشيِّدةِ لأبنيتها سرعان ما تتعرّض للزوال والاختفاء والمحو، ولن يكون بوسعها أن تتحوّل إلى تراث مضيء حين يعبرها الزمن وتصبح شيئاً مُهمَلاً من التاريخ، ولم يكن بكاء الشاعر العربي القديم على الإطلال سوى نوع من الحنين الفِطريّ نحو أحداث صغيرة، كان الشاعر قد مرّ بها أو عاشها أو عايشها وتلبّثت ذكرى جميلة في خاطره قد تستحق البكاء.
تختفي الأمكنة أو لا تختفي؛ هذا سؤال كبير لا تُشبِعُهُ إجابة واحدة على أيّة حال، فثمّة صراع خفيّ دامٍ بين المكان والزمن، حين يسعى المكان بما أوتي من قوّة إلى الثبات وتفادي حراك التغيير الذي يفرضه الزمن على معالمه وتفاصيله، فالزمن يحاول أن يشتري المكان ويحوّله إلى فضاء لا علاقة له بالأصل المكانيّ في تقاليده وأعرافه وشكله وروحيّته، على النحو الذي يتوافق تماماً مع فاعليّة الزمن في التغيير والتحوّل والانتقال من حال إلى حال، بكلّ ما ينطوي عليه ذلك من غياب مكانيّ للصورة المعروفة والمتداولة والمألوفة؛ في السبيل نحو تشكيلٍ مكانيّ مغايرٍ يتلاشى فيه صوت الحنين.
لا يمكن للنازح أو المهاجِر أو المنفي أو الطريد أن ينجو من لعنة الغربة وتَبِعاتِها بلا خلاصٍ أكيدٍ من صوت الحنين، وانتزاعه نهائياً من باطن الجلد وظلِّ الروح بحيث يتحوّل إلى كائن قادر على نسيان المكان وإهمال ندائه العميق، عندها يكون بوسعه معاينة الأشياء بمنظور حقيقيّ يرى فيه المفردات كما هي فعلاً لا كما يصوّرها حنينه المريض، فيبدأ المكان عندها بالاختفاء والذبول والاندثار والموت، إذ إنّ ارتباط المكان بالحنين هو ارتباط جدليّ متين يرفع الحسّ المكانيّ إلى أعلى درجة من درجات الهيمنة والسيطرة، ومصادرَة فعاليّة الاختيار والرغبة في فتح أفق المعرفة المكانيّة على أمكنة أخرى ذات فضاء آخر.
تعدّ علاقة الإنسان بالمكان من أعقد أنواع العلاقات المشتبكة مع طبقات واضحة وأخرى غامضة من طبيعة الحساسيّة البشريّة للإنسان، وقد سبق للشاعر العربيّ أبي تمّام أن قال: (كم منزل في الأرض يألفه الفتى/وحنينه أبداً لأوّل منزلِ)، تعبيراً عن حظوة المكان داخل مشاعر الإنسان وعواطفه وخياله ووجدانه وحياته كلّها، فالألفة المكانيّة تزوّد الإنسان بطاقة هائلة على تَمثّلِ أسرارٍ غامضةٍ غائرةٍ في دم الإنسان وروحه، حيث يرتبط بفضاءٍ مكانيّ ساحرٍ يتشبّث بأصغر بؤر العاطفة ويتمكّن منها على نحو أصيل وحاسم، لذا نجد أنّ كثيراً من البشر لا يودّون مغادرة أوطانهم وملاعب صباهم إلا اضطراراً، وحين تتقاذفهم الأمكنة بحُكم الضرورة حتّى يستقرّوا في بلدٍ ما تبدأ فوراً مشكلة صراع الأمكنة، بين مكان جديد لا يعرف كيف يتعامل معه؛ وحنين يشدّه إلى المكان القديم ويوغر صدره بالذكريات والأحلام.
إنّ هذه المعركة الوجودية لا تقبل القسمة على اثنين؛ فإمّا أن ينجح الإنسان في قبول الآخر المكانيّ والإنسانيّ والاندماج معه والعيش بسلام، أو السقوط في حالة التوحّش والإذعان لنداء الحنين وهو يشدّه إلى الماضي والمرجع المكانيّ، ومن ثمّ معاداة المكان الجديد والسعي إلى الانتقام منه انتصاراً للذاكرة المكانيّة في جوهرها القائم على حلّ الانتحار، ولاسيّما حين لا تكون ثمّة إمكانيّة للعودة إلى المكان القديم الذي قد يكلّفه ذلك حياته.
نجح مهاجرون أو منفيون أو مهجّرون كُثر في التخلّص من نوبات الحنين الدامية، وعبور جسر الذاكرة وعتبة الماضي نحو أفق مكانيّ آخر بحماسةٍ واقعيّة واعية تنتصر لحقيقة الوجود، فصنعوا من أنفسهم شخصيّات أخرى جديدة لا تنظر إلى اختفاء الأمكنة بل تنظر إلى ولادتها وخضرتها وديمومتها، وخرجوا بجلود جديدة نحو الأمكنة الجديدة وتفاعلوا معها بروح من الرغبة في الاندماج والتفاهم والأنسنة والمواطنة، فالأمكنة الديمقراطية توفّر للوافد الجديد إليها فرصة الاندماج إذا ما حمل هذا الوافد عزيمة أكيدة ورغبة أصيلة على استثمار الفرصة، ولا يلتفت في خضمّ هذا النشاط الخلاق إلى الأمكنة الراحلة والأطلال المندرسة في فضاء الذاكرة، بل يمضي نحو الحلم القادم بأقصى ما يمتلك من طاقة على التجدّد والاحتفال باللحظة الراهنة والاستجابة لصوت الأمل، ولتختفي تلك الأمكنة الطاردة إلى الأبد بوصفها كيانات عدوّة لا ترعى سوى من يغتصبها ويستحوذ على راهنها بقسوة وترويع.