د. سمير الخليل
تبقى الكتابة في مجمل مخاضاتها جهداً إبداعياً لاقتحام المعنى والبحث عن الرؤى الاستثنائية وتتعدد المقاربات للوصول إلى الحقيقة من وجهة نظر شعرية.. وتتعدد الشعرية ومناخاتها للوصول إلى صورة تثير فينا التوق لقراءة العالم جمالياً.. والسؤال المهم كيف يمكن للشعر أن يتوهج وهو يمسك بالجدل المتصاعد بين ما هو شعري وبين ما هو معرفي.. وهل يمكن الخوض في هذه المغامرة والاشتباك بين جمالية الشعر وعمق المقاربة الفكرية بكل تجلياتها المعرفية الصوفية والإدراكية..؟ وإلى أي مدى يفقد الشعر شعريته في لحظة متوترة كهذه..؟ وكيف سيصطبغ المعنى الفكري بهواجس وإشراقات الشعر.؟ وما الذي سيحدث جمالياً وفكرياً حين تمتزج الرؤى الشعرية بأفكار الفلسفة والعرفان والنزوع الذهني في مغامرة قد يفقد أحد أطرافها خصائصه ومزاياه؟.
وفق هذا الاستهلال الذي تتشابك أسئلته يمكن الخوض في الكتابة عن مجموعة الشاعر علي عيدان عبد الله الموسومة بـ (كتاب السعة) الصادرة عن دار المؤلف بيروت، والمتضمنة نصوصاً تعبيرية تمزج بين الشعر والفلسفة والفكر والعرفان، ولكل تجربة أو مغامرة تجلياتها واشتغالاتها وجمالياتها، واستطاع الشاعر أن يوظف ثنائية الشعر والفكر وصولاً إلى نص جمالي ومعرفي يقدم رؤية استثنائية لتعميق الإحساس والوعي بالوجود والإنسان وظواهر الحياة وتداعياتها.
وإذا كان العنوان هو العتبة أو الإضاءة الأولى أو (ثريا النص) كما يسميه (جيرار جينيت) فإنه يوحي أو يحرض على أنّ الشعر هو وعي لحظة وجودية ملتبسة، فمفردة كتاب في العنوان (كتاب السعة) تحيل بدءاً إلى ما هو معرفي من خلال الكتاب بوصفه دالاً والمعرفة بوصفها مدلولاً والسعة هي النظرة المتسعة المتوازنة لاحتواء لحظة شعر مقترنة بلحظة تدبّر وتأمّل.
يقول في الاستهلال:
رأيته في كرخ بغداد
وما أن أجلسني بجانبه
حتى قلت: يا أحمد!
هذا كتابي سمّيته
من كل ما هو راسخ استعيدُ نفوذي
فقال: بل سمّهِ
كتاب السعة
ففعلت...
انطوى الاستهلال على حوارية معرفية لتسمية الكتاب وهو يتطرق إلى كل ما هو راسخ والرسوخ يحتمل النزعة المعرفية والفكرية لتكوين رؤية ونظرية تتسم بالسعة لاحتواء الفكر والشعر معاً، والسعة هي الوسطية البعيدة عن التطرف، وقد تناول عبد الله الغذامي في كتابه (الفقيه الفضائي) تحت عنوان (كتاب السعة) آراء أبي حنيفة في وسطيته، فالاستهلال كان إشارة سيميائية عميقة ومبكرة للكشف عن مجمل التجربة الشعرية وتحولاتها في نصوص المجموعة، وهي الى جانب أنها ديوان أو مجموعة شعرية فإنّها أيضاً (كتاب) في التصدي لقراءة الواقع وامتداداته وتعقيداته والتي لا يمكن لرؤية منفردة أن تحيط به بكل سعة.
ومن يخض غمار القراءة سيجد الإجابة عن سؤال ضمني: كيف ستكون طبيعة الصورة الشعرية وهي نتاج الجدل القائم بين الشعري والمعرفي؟، وكيف سيكون رسوخها ومتعتها في نصوص المجموعة، التي جاء عنوانها عبر محاورة معرفية للوصول إلى ما هو شعري وجمالي؟، فتحول العنوان والاستهلال إلى أحد موجهات القراءة واستثمار قصدية الوعي بالمعنى الظاهراتي للوصول إلى شفرة النصوص وبنيتها العميقة، وقد قسم الشاعر مجموعته إلى أربعة أقسام هي:
1 - مديح من يشعر بمرارة المكوث.
2 - كتابات على جدران قاعة الفينيق أو كما يسميها البعض قاعة الغرباء.
3 - مديح من ينجو من مكائد الأسئلة.
4 - مديح من تلقى صفعة التربية الجيدة مبكراً.
ويُستهل كل عنوان بمفردة شعرية هي (مديح) بوصفها أحد أغراض الشعر ثم يأتي بعدها التوصيف السردي المعرفي لتعبّر هذه العناوين عبر عدة نصوص عن جوهر الاشتباك بين الشعر والفكر ومنطق التعبير الناتج عن هذه الثنائية ولصياغة رؤية المشترك بين شعرية المعرفي ومعرفية الشعري في مخاض بكر وعميق، وصولاً إلى نص يسعى إلى مجاوزة ما هو تقليدي باتجاه نص ينشد المغامرة والاختلاف، وصولاً إلى قصيدة نثر مكتظة بالصور والمقارنة الرؤيوية بين النظرة الشعرية والتأمل الذهني يقول في نص (انظروا جيداً).
قال: أدهشني الورد
ألم تكن رشّة واحدة؟
فكيف اختلف العطر؟
قلتُ:
اختلاف العطر
كان قبل أن يختلف الورد
ألم تطلّع على ما جاء في سفر الماء؟ (ص16)
هذا النص يتعمد الوصول إلى طاقة الإدهاش وتكوين صورة ذهنية باذخة
المعنى، وكم كنت أتمنى أن يكون
استهلالاً أو عتبة أولى لأنّه يعبّر بوعي وشاعرية عن جوهر اشتغال تجربة الشاعر.
ولنتأمل تحولات الورد والعطر والماء والسؤال الفلسفي وكيف توصل الشاعر إلى (اختلاف) (الورد) بوصفه العلة الأولى، ففي نص (سألته فأجاب النفري) نجد تنويعات صورية – عرفانية وقد استعار الشاعر في العنوان اسم الصوفي الكبير (عبد الجبار النفري) يقول في هذه النصوص المتفرقة لتكوين قصيدة ذات بعد رمزي.
الطائر يمر:
ليس لي رديف
عن اتجاهي:
أنا أجاهر لا أهمس
لأنني
لست ذكرى طير. (ص32).
إدهاش صوري – عرفاني.. لتعريف وتجسيد المعنى الضمني الغاطس في بنية النص للدال (الطير) وتوهجات (الحرية) المدلول وفلسفة التمرد والوجود الفاعل (لست ذكرى طير). وفي النص يتضافر الجدل على مستوى خلق المعنى بين الشعرية ومفرداتها وصورها وتقنية الإيحاء وبين المقاربة – المعرفية والتوكيد على المعنى الكلي وتجلياته واتّسم النص بالاختزال المكثف الذي عرف به النثر الصوفي حتى أنه يحلّق باتجاه النسق والثراء الشعري، ونجد في تجربة علي عيدان عبد الله روح الابتكار والتجريب والاختلاف في نسيح نصوص تثير المتعة الشعرية والتأمل الذهني وجمع بين النصوص الطويلة وبين التقطيع المونتاجي داخلها وقد تشظت كما الفكرة الكبيرة إلى أنساق وبؤر صغيرة وقصيرة لكنّها تنتج صوراً ومعاني محلّقة ودالة.
في هذه النصوص المختزلة والمكتنزة جداً بمعنى معرفي وعرفاني وإشاري عميق يحفل الشاعر بقدرة على الالتقاط اللفظي والمبثوث القيمي المتعالي حزمته من شذى التعاليم والوصايا وهي أشبه بتراتيل أو جمل صوفية تختزل المعاني الكبيرة في الحياة والحرية وأسئلة الوجود وكثيراً ما يقترب الشاعر وفق تجربته الشعرية – المعرفية من نص الومضة أو الهايكو وكأنه يغامر في اختزال كبير وبعدد قليل من الكلمات لينتج نصاً ينطوي على عمق الفكرة وإدهاش التناول، إنه يبتكر الصور التي يراها الكثير لكن من النادر أن يتوقف عندها العقل والحواس لتفكيك ظاهرتها وصولاً إلى المعنى الضمني والتصدّي لهذه الثنائية بين الظاهر والباطن.. والصورة والمعنى والنسق المفكر فيه.. ونسق الموجودات ودلالاتها وليس أشكالها العابرة.. هذه هي البيئة التي يخوض في غمارها الشاعر بلغة شعرية مختزلة وبفكرة مستقرة ومشعة.
وتجد إشارات وإحالات وذكر وتضمين لكثير من النصوص وأسماء الشعراء والفلاسفة والروائيين كقصدية من قصديات التضمين المعرفي وما تنطوي عليه من إشارة
منتجة.
يتوالد وفق هذه الصياغة في الرؤية وتوظيف ثنائية الصور الشعرية وتضافرها مع المعنى الفكري والإحالي.. يتوالد النسق الدال وتعميق الصلة الإشارية بين النص والخطاب.. وتتجذر معالم هذه التجربة الاستثنائية في كثير من التنويعات وتعدد المضامين الفلسفية والعرفانية والفكرية وصولاً إلى شعرية الفكرة وتعميق الحدس والإدراك واستثمار الشعر في المعرفة واستلهام المعرفة في الشعر، في تجربة تتحقق أكثر من دراسة واستنطاق نقدي وتحليلي.