ميسان ـ واع ـ شذى السوداني ـ وعبدالحسين بريسم
المدن المائية هي البذرة الأولى لنشوء تاريخ المعرفة الإنسانية، فقد كانت مجاميع البشر ممن استوطنت في الأراضي المحاذية للأنهار والأهوار والبحار هي السباقة في تنامي المعرفة والتعبير عن الهواجس والمشاعر وتدوينها على ألواح طينية أو على أوراق البردي.
لذا فإن أول حرف كتب في تاريخ الإنسانية كان في أور على ضفاف الأهوار جنوب العراق.. ومنها ومن المدن بجانبها تسابق الكتاب والشعراء ليسجلوا بطولاتهم وانتصاراتهم ومشاعر الشوق للمدينة والحبيبة مع وصايا للأولاد وغيرها من آلاف الرقيمات التي عثر عليها في وادي الرافدين.
ولادة الإبداع
في حوار مغاير مع الدكتور هارون رشيد طرح موضوع المدن المائية وعلاقتها مع ولادات نجوم الإبداع في الأدب والفكر والفن ،ولماذا دائما هذه المدن المائية يأتي منها الإبداع والتفرد في مختلف مجالاته، قائلا: ربما الجينات الوراثية واحدة من أهم العوامل التي انتقلت عبر الأجيال بين أبناء المدن المائية ،ومثال على ذلك أن أول شاعر في العالم هو الشاعر الذي كتب أول قصيدة على ورق البردي في سومر العظيمة وأيضاً ملحمة كلكامش ،ومن هؤلاء جاء الأحفاد في العصر الحديث أمثال محمد خضير وحسب الشيخ جعفر.
في الشعر والسرد
وأضاف: نعود الى المدن المائية وعلاقتها المتجذرة مع ابناء الماء.. الابناء الذين شربوا الكلمة مع مضغة الفطام لتكون جواز سفر في عالم الابداع ،فلو اخذنا خارطة الابداع العراقي وتجربته في مختلف مجالات الابداع لوجدنا ان البوصلة تشير دوما الى مدن الماء والانهار والبحار والاهوار ،وهذا لا يعني انحيازاً مناطقياً ،وإنما هو إشارة ضوء لمكامن الابداع ،وهذا المشهد يتكرر في أغلب بلدان العالم ،وإن كان الاغلب من ابناء الماء دوما ما يرحلون في رحلاتهم ضد التيار للوصول الى الصعب، وهنا لا بد لنا ان نترك للدارسين والباحثين لادارة ملف هذه المعطيات لايجاد حقيقة علاقة مدن الماء بالابداع.
سحر المكان
الكاتب والناقد علي سعدون يرى أن "الجغرافيين يدركون أن خير البلدان تنشأ بمحاذاة الأنهار، فتلتصق بها وتنتظم حياتها بسببها وبما تتيحه من سبل للحياة الواسعة والمتنوعة وقد عملت منظمة اليونسكو في العام 2019 على تسجيل عدد من المدن العربية بوصفها من المدن المحرضة على الإبداع وهي خطوة لافتة".
واشار الى ان "الجغرافيين لايفهمون معنى أن تكون الطبيعة النادرة محرضا على البوح بطريقة مختلفة، مثلما تكون محرضا كبيرا على الإبداع والفنون.. وبتقديري البسيط يرجع ذلك إلى سحر المكان وقابليته على الإيحاء.. فالمدن التي يحيطها الماء تكون متأثرة بنوع استثنائي من ذلك الإيحاء الممزوج بأصوات الطيور والحيوانات البرية واصوات تدفق المياه وسكون الاهوار وما تتيحه من عزلة كبيرة تجعل المرء عرضة للتأمل الواسع والكبير.. يحدث ذلك للمشتغلين في فنون اللغة وبمقدمتها الشعر. ومع ذلك فالموضوع يأخذ أبعادا أخرى في تدفق الموسيقى النادرة والأصيلة في هذه المدن".
واضاف سعدون: "اتذكر في واحدة من زياراتي للأهوار تكرر امام ناظري مشهد وقوف الطير على رأس إحدى الجواميس، وهو ما وثقته التشكيلات البصرية السومرية في عديد الألواح الموجودة في المتاحف. وهذا دليل شاخص على تأثير الطبيعة في الفن سواء كان لغة أم موسيقى أم فنوناً تشكيلية".
خصوصيات المياه
وتحدث القاص ضاري الغضبان قائلا: إن مدن ضفاف الأنهار، بغداد دجلة ، قاهرة النيل، واغلب مدن العراق على ضفتي الفرات ودجلة،ومدن الشواطئ كبيروت والاسكندرية وتونس، هي مدن تلامس الماء بوجه منفرد وإن كان يسمو بالابداع، لكن هنالك خصوصيات، فالبصرة مثلا تتلاقى فيها مياه النهر والبحر، ومدينة العمارة جنوبي العراق متفردة بتربعها على ضفاف ثلاثة أنهر، دجلة والمشرح والكحلاء.. وكأن اتساع أفق الماء، مفتاح أبواب الإبداع من حيث لا نشعر، ماء يمنح آفاقاً رحبة للتأمل والخلق، ضفاف وشواطئ تكون همزات وصل تلاقح حضاري، خضراء تكون تحصيل حاصل لماء نهر عذب، من هذا وذاك تفتح تلك الآفاق الرحبة مغاليق العقول، ويمتد بصر العيون حيث يلاقي خط الأفق كسلسبيل ازرق، فتبدع العين الثالثة، لذلك الشروق من خاصرة النهر/ البحر، سيرسل إشارة مبهرة مقارنة بمثيلة من أرض يباب، غروب في رحاب ماء بأفق واسع، حيث القرص الدامي يلامس زرقة توحي بموعد ولادة لا يمكن أن نجدها في غروب الصحراء، حيث الوحشة.
واسترسل: ومن ثم خصوصية الأهوار، بطائح المياه العذبة، حيث غابات القصب وزنابق الماء والهوس المحبب للطيور المهاجرة وهي تصنع مثابات إبداع من صور متفردة ومواويل شجن وعبق نسمات، هناك تتلألأ آيات الوجود الأول حيث مر جلجامش يبحث عن نبات الخلود في ملحمة الشعر الأولى.
بيئة آمنة
وعن تأثير البيئة في الابداع افاد الباحث الاكاديمي سعد ياسين يوسف، بأن الأماكن المنفتحة على فضاءات الماء والأنهار والبحيرات والأهوار وحتى البحار تترك أثرها في النفس البشريّة ما يجعلها تكتسب من طراوة الماء الكثير، فضلاً عما تتسم به تلك الأماكن من جوٍ عذبٍ ووفرة في الزراعة وكائنات تسبغ على الوجود جمالاً ورِقة، كالطّيور والأسماك والتّنوع البيئي الجميل ،ما يمنح الإنسان أمناً وشعوراً بالرضّا وحبّ الآخر، ولذلك فالإبداع بشكل عام لا يزهر إلا في البيئات التي تتيح للإنسان التفكير بالكون والجمال.