أحمد الشطري
اذا كان النص في إطاره الشكلي والمعماري يمثل وحدة متكاملة، فإن تلك الوحدة في إطارها البنيوي تعتمد او تتشكل من مجموعة وحدات او بنى، تسهم جميعها في تكوين الخطاب الدلالي للنص، واذا كان المستوى الدلالي للنص يعتمد في الغالب على تواشج معطيات داخلية وخارجية، فإن السعة الدلالية لتلك المعطيات تستند الى القيمة الإثرائية للنص ذاته. ولذا فإن المستويات البنائية رغم استقلاليتها الظاهرية، إلا أنها لا يمكن ان تعكس الصورة الحقيقية للنص إلّا بعد أن تتجلى معطيات كل مستوى بنائي فيه؛ لتسهم في تكوين الصورة المقترحة له وفق منظور المتلقي.
ووفقا لذلك سنحاول أن نرسم اقتراحا قرائيا لنص «مدوّنة الموت» لعارف الساعدي، والذي يتناول فيه موضوعة (الموت) ليس بمفهومها الفلسفي فحسب، وإنما بمفاهيمها المتنوعة أيضا اجتماعيا ودينيا وسياسيا، بل وبأشكالها المختلفة أيضا الحقيقية والمؤولة، والطبيعية والمصنعة، وبالنظر في المستوى الصوتي للنص نجد أن الشاعر قد اختار لقصيدته بحر الطويل وهو من البحور التامة التي تستوعب اغراضا متنوعة، كما أنه يعد من اكثر البحور استخداما في الشعر العربي، وأرى أن بحر الطويل يمتاز بهدوء إيقاعه الذي يتناسب مع جدية الصور والأفكار التي يمكن أن تطرح عبره.
ومن هنا فإن قصيدة عارف الساعدي وبما تحمله من أفكار، قد جاءت متلبسة لهذا البحر، سواء كان ذلك التلبس إراديا أم لا إراديا مع ترجيحي للأول؛ ذلك أن الساعدي من الشعراء المطبوعين، وهذا ما يظهر بوضوح في قصائده التي ضمتها دواوينه التي جمعها في الأعمال الكاملة الصادرة عن دار سطور عام 2018، ومنها قصيدته التي جاءت ضمن مجموعة (مدونات).
لقد اختار الشاعر لقصيدته قافية المتدارك المطلقة المجرّدة من الردف والتأسيس واختار رويين: الأول هو التاء المضمومة والثاني هو الراء المضمومة أيضا، والتاء صوت ساكن انفجاري والراء صوت تكراري، وكلا الحرفين مجهورين، والضمة حرف لين صائت خفيض، والتاء المضمومة تكون مصحوبة بضجة ذات فرقعة اذا وقعت في آخر الكلمة؛ كما أن الضمة تتحول الى الواو عند وقوعها في الروي؛ لاحتياجها الى الإشباع، وهذا الأمر يسهم في توسيع مساحتها الفونيمية.
والميزة الصوتية هذه ومن خلال تناسقها الهرموني مع القوة الايقاعية لبحر الطويل ستسهم في تعزيز الأثر الايقاعي وتعميق وقعه لدى المتلقي على الصعيد السمعي في ركنيه الداخلي (التلقي القرائي) والخارجي (الشفاهي).
أما على المستوى التركيبي فيمكن أن نُقَسِّم القصيدة الى مقطعين الأول: هو المقطع (التائي)، والثاني: هو المقطع (الرائي)، واذا ما نظرنا في تركيبة المقطعين فسنجد أن الشاعر قد اعتمد في المقطع الاول خاصية التكرار، وخاصة للفظة (الموت) سواء بلفظها الصريح أم بما يدل عليه، وقد بلغ عدد تكراراتها تسع مرات؛ ويبدو أن الغرض من ذلك هو تعزيز وترسيخ فكرتها وموضوعها الرئيس، كما كرر لفظة (كثيرون) ثلاث مرات في البيتين الأولين، كذلك تكرار اسم الاشارة (هنا) في ما بعد، كما نلحظ في القصيدة كثرة استخدام أساليب الاستفهام والنداء والتقديم والتأخير والغاية من ذلك كما يبدو هو؛ لتأكيد وتعزيز أهمية التساؤل الفلسفي لماهية الموضوع وغايته وطبيعة مفارقاته.
ونلحظ ايضا في عملية انتقال الشاعر من روي التاء الى روي الراء الذي برره بقوله: (كما ضقت بالتاء التي في قصيدتي/ وها أنا نحو الراء أمشي وأعثر).
إن ذلك الانتقال لم يكن محصورا بتغيير الايقاع الصوتي للروي، وإنما هو ايضا تغيير في صورة وايقاع الانفعال النفسي، اذا نرى أن الشاعر قد عمد الى استخدم تقنية (الفلاش باك)؛ لاستعادة صور الطفولة وأجوائها المتشحة بالبراءة والجمال والمرح، مع المحافظة على المسار التساؤلي ذاته، والذي بقي مهيمنا على الجو العام لكامل
النص.
ومن خلال النظر في البناء التركيبي للنص نلحظ أن للأفعال بمختلف أزمنتها حضورا طاغيا، وهو ما يمكن أن نتبين من خلاله هيمنة الاضطراب والحركية المفرطة على اللاشعور، وهذا ربما كان ناتجا عن غائية التساؤل أولا، وعن الاحساس المترسخ في النفس بهيبة وعلوية حضور المسؤول (الربّ) لدى الشاعر ثانيا.
وربما أيضا يعود الى المترسخ اليقيني في نفس الشاعر، والذي يجعل من تساؤل كهذا والمتعلق بغائية موضوعة قدرية، يبدو منطويا على شيء من الديماغوجية والعبثية؛ وهو ما أسهم في ظهوره الانعكاسي على النفس والمستدل عليه من خلال هذه الحركية المفرطة والمضطربة.
كما يمكن ان نلحظ أن الشاعر قد استخدم في خطابه النداء المجرد من التعريف بالاضافة أو أل التعريف (تنكير المنادى) في قوله: ( يارب)، مع تأكيدنا على أن خصوصية (المقصود) تنطوي على معرفية يقينية لدى المنشيء والمتلقي رغم تجريده، وأرى أن في ذلك مقصدا (إراديا او لا إراديا)؛ لتوسيع دائرة المنادي وتعميما لنقطة انطلاق النداء. بمعنى أن النداء المنطوي على التساؤل غير محصور بفردانية الشاعر وإنما يمتد الى جمعية المتلقين. وكما أشرنا سابقا أن التساؤل هو معرفي وليس احتجاجيا او استنكاريا، وهو أيضا متضمنا ليقينية النتيجة او الجواب، وهو أشبه بتساؤل النبي ابراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، مع الاشارة الى أن خطاب ابراهيم (ع) كان منحصرا به بدلالة نسبة المنادى الى المنادي (ربِّ) ومع التأكيد على أن التشبيه هنا تشبيها مجازيا وليس حقيقيا.
ومما سبق ومما لم نتوسع بالاشارة اليه في نص الشاعر عارف الساعدي هذا نجد أنه قد انطوى على كم كبير من الجماليات الأسلوبية والفنية فضلا عن القيمة المهمة في الجانبين الفكري والفلسفي.