نصنع أم تصنعنا المأساة؟

ثقافة وفن
  • 5-07-2021, 08:31
+A -A

 ياسين طه حافظ
 

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
الحديث هنا عن الخطوط الفاصلة التي ألفناها بين الموضوعات وأجناس الفن. وما قصدت العناية بها ولا الاهتمام والتأكيد او إدامتها لكي لا تموت، ما أردته هو إعادة النظر وربما إعادة المصطلح، قبل الانتقال وقبل التجاوز. ولكي أكون واضحاً أو مباشراً سأفيد مما ورد في عالم جديد شجاع .. لهكسلي:
«لا أريد الراحة» يقول المتوحش، «أريد الله وأريد الشعر، أريد الخطر الحقيقي، أريد الحرية وأريد الخير وأريد الخطيئة..»!
ويوجز «موند» في الرد عليه:
«أنت في الحقيقة تريد أن يكون المُصيب، صاحب الحق، محزوناً».
كما ترون صرنا أمام شخوص اقتسموا حياتنا زمناً، أو هي رغبة في الاقتراب من شخوص سوفوكلس وشكسبير. وهنا ثمة إحساس في إيجاد الخطوط الفاصلة بين صواب وخطأ أبطالهما، ثم فهم الحياة هناك والحياة هنا.
ولتعذر الوصول واستكمال الفهم، أو بسبب لا ضرورة الأسباب ما دامت النتائج قد حصلت، يمكن أن نجد لدى معرفيين، نفسانيين، أو مؤمنين من الموجات المعرفية الحديثة، المشغولة دائماً بإعادة النظر، نجد أن لا ضرورة للمجتمع اليوم ليقرأ تراجيديات أو أن يعود لرؤية الضحايا. نحن نثقل حياتنا بأحزان صعبة لا قدرة لتحملها مع ما علينا ..
بعيداً عن القرون السالفة، لنستعن بالدراميين الجدد. هذا بريخت كأنْ لينقذنا في قوله: 
«عذابات هذا الرجل تفزعني لأنها غير ضرورية»!.
ومعنى هذا، أن البطل - قبل البريختيين- كان واحداً في مجموعة تعمل، الأبرز يجب أن يسقط أو يُقتل أو يظل حائراً لا يملك قراراً، وأيضاً ينتهي بموت.
النتيجة واضحة وتعذيب البطل قبل أن يموت، لا ضرورة له. – هل بريخت يتحدث عنا أيضاً؟- سؤال فقط، نُكمل الكلام: لدى بريخت وعي تراجيدي جديد، يؤسس لمصائر مشتركة، لا بين شخوص المسرحية حسب، ولكن بين الناس خارج المسرح أيضاً.
التراجيديات تنوعت بتنوع الثقافة وتنوع الاهتمامات وايضاً بتوسع وتطورات التكنيك. وتنوعات الاتجاه وراء التطور الأخير. بعضها يصف أحداثاً مصنوعة متخيلة وبعضها تعمل فيها المعارف الجديدة، كما يعمل في بعضها التقليد. لم نعد أمام الوصايا الثلاث. نحن في زمن السيمياء، العلامات، وتعدد الإيحاء. فمن واجب الدارس اكتشاف جذر الاختلاف في نماذج هذه التراجيديات الجديدة وتحولاتها. الكوميديا فلتت من حراس المصطلحات وجاوزت حدودها غير آبهة، بل بتفوق! «الكوميديا الإلهية» مثلاً ونعلم جيداً أن جحيمها مجمع مآس. و»كوميديا الأخطاء»، ثم «الكوميديون» لجراهام جرين.. كوميديات اتخذت مضامين التراجيديا.
ليس هذا حسب، فقد صرنا نستعمل تعابير مثل: مات موتاً مأساوياً، إذا قتل نفسه أو مزقته شاحنة. ونقول واجه قدراً مأساوياً على أيدي اجهزة الدولة! ثم، بعدما تماثل للشفاء، وحين غادر المستشفى ضربته سيارة في الطريق إلى بيته، مأساة!
يبدو أن المأساة، أن التراجيديا، بثقلها الأجنبي، صارت بعضاً من مكوّنات حياتنا.. وثقافتنا. تجاوزت تلك التي ورثناها من اليونان إلى الإلزابيثية إلى الحديثة، لتكون مع خبزنا في حديثنا اليومي. الأكثر، وربما الأشنع، أنها صارت تشارك الكوميديا في غرفتها.. الكوميديا السوداء، الكوميديا القذرة الـ nasty وكأنهما أختان زال ما بينهما من خلاف: ماذا نسمّي: «ظلّا مخطوبين اثنتي عشرة سنة، ومات ليلة زواجه!»؟ صعب إزاحة الحس الكوميدي، وصعب تجاهل مأساوية الحدث. وماذا نسمّي هذا التزاوج الجديد، هذه الصحبة التي صارت تتزايد في حياتنا اليومية؟.
إن تعقيد الحياة واتساع وتنافر مفردات العيش وأحداثه، أنتجت «هلوسةً عاقلة»! وكسرت حدود، لا المصطلحات حسب، ولكن حدود المعاني أيضاً. وما دمنا دارسين متابعين، لا بد من ذكر: أن المعنى وضده، كثيراً ما كانا قرينين في الآثار الأدبية القديمة. أمثلةٌ كثيرة في شعرنا القديم وهي تكاد لا تفارق السور في مصحفنا الكريم. يمكن إيجاد أمثلة ولكن لا نجد ظاهرة ولا نجد اعتياداً عليها.
فمثلما من الحياة تغلغلت في النصوص الأولى هي الآن بعد توالدها وتطوراتها تدخل من النصوص إلى مفاصل حياتنا اليومية، حيث المحنة دائماً صحبة الخبز وحيث حساب لاتجاه الحركة والكلام وحتى تحولت المأساة (التي كان لها شكل ومكان وسياقات)، تحولت في حياتنا المدمرة والمربكة إلى نبض، إلى إحساس يرافق اشتراطات العيش. فهي تتشكل مع ممارسة العيش كبعض الحياة، ولا أحد بعد يستطيع تجميد المعنى عند حدوده القديمة ولا أية حدود جديدة.. الحياة وتفكيرنا وتشوشات إحساسنا، جاوزت الخطوط المرسومة، وإذا كان الإنسان مخلوقاً تراجيدياً أو متناقضاً أو كوميدياً، فكل فنونه كذلك. وهنا لا يكون دقيقاً كلامنا عن فن المأساة فناً مستقلاً خاصاً بموضوعاته أو أشكاله.
لكن لماذا ننسى قول أرسطو: إن متطلبات المأساة والملهاة، واحدة؟ هل أدرك الرجل أن الجوهري هو فن الكتابة ولا حدود تفصل فناً عن فن؟ أظنني واحداً من كثيرين أدركوا أن وجود سخرية أو بعض من ملهاة، يجعل التراجيديا اكثر مأساوية ويعمق أكثر ما نحس به من وجع أو من حزن.. من غير إذن أو إشارة من أحد، صارت كلمة مأساة صفة لحدث ونوعاً لعيش أو مزاج أو موقف وهذا يعني أيضاً صفة لقدر أو نظام سياسي أو خطأ في الرؤية والتشخيص. فالمأساة في الموسم أو في المباراة أو في العمل السياسي أو في التجارة وأحياناً في رؤية الصواب وتكشف الحقيقة، وهذا في حياتنا كثير... 
المشكلة الأخيرة الدائمة: هي أننا، المختلفين متاعب وثقافات، نعيش معاً، ونموت كل ومحنته، منفردين.