محمد صابر عبيد
يندرج مفهوم الفائض في أيّة ممارسة من ممارسات الحياة ضمن معنى ما هو زائد عن الحاجة؛ وقد يضرّ أكثر مما ينفع، فثمة معايير ومقاييس مثاليّة لكل حالة من الحالات لا يحسن تجاوزها كي تكون الأمور على أفضل حال، وهو ما يمكن وصفه بالوصول إلى درجة «الإشباع» التي تنتهي عندها حاجة الموضوع للمادة لبلوغ هذه الدرجة، فقدح الشاي يحتاج كميّة محددة من السكر لكن المبالغة في وضع مزيد من السكرّ فوق الحاجة تصل به إلى درجة الإشباع، وبعدها فإن السكر يكف عن الذوبان في الشاي ليتكدس على نحو مشوه في أسفل القدح؛ فتتم خسارة السكر وفساد الشاي معاً.
ينطبق هذا الكلام على معظم الفعاليّات الأدبيّة والفنيّة ومنها السرد، لأنّ حاجة الإنسان للسرد تعدّ ضرورية جداً ولا يمكن استبعادها لأيّ سبب كان، فالإنسان كائن سرديّ بطبيعته، ميّال لمزيد من السرد في الأوقات جميعاً وبحسب حاجة كلّ وقت وضرورته، غير أنّ السرد في النصوص الأدبيّة يعدّ أكثر انضباطاً واقتصاداً وتكثيفاً وسيميائيّة من السرد الطبيعيّ الذي يمارسه البشر جميعاً، ومن هنا نشأت في أدبيّات البلاغة العربيّة مصطلحات تخصّ هذه القضيّة على نحوٍ أصيل، وفي مقدّمتها مصطلح «الإيجاز» ومصطلح «الإطناب»، لمقاربة أساليب التعبير السرديّة في السرود الكلاسيكيّة العربيّة المعروفة، وقيل في هذا المضمار «البلاغة هي الإيجاز» مدحاً بقدرة السارد على اختزال الكلام إلى أقلّ حدّ ممكن مع عدم الإخلال بالمعنى
المطلوب.
يتقدّم السرد القصصيّ والروائيّ في المجال الأدبيّ بقيّة أنواع السرود من حيث الشهرة والتداول والانتشار في أوساط مجتمع التلقّي، لذا سنرصد قضية الفائض السرديّ في النصّ القصصيّ القصير والنصّ الروائيّ ضمن فضاء فلسفة الكتابة الإبداعيّة وإشكاليّتها، فالكتابة الأدبيّة تقوم على مهارة نوعيّة بالغة الكفاءة من طراز خاصّ جداً لا تتسنّى لأيٍّ كان، إذ لا بدّ أن يعرف الكاتب جوهر أخلاقيّات الكتابة في سياق رصّ صفوفها بلا نشازٍ يُذكَر، وهو ما يتطلّب موهبة كبيرة وإعداداً معرفياً خاصاً بدعم آليّة الكتابة داخل نسق من الحساسيّة الاحترافيّة التي لا تترك فراغاً مَعيباً، بحيث تكون القصّة القصيرة أو الرواية كتلة سرديّة متراصّة على شكل سبيكة لا سبيل إلى اختراقها بسهولة.يمكننا في هذا السبيل التمثيل بمثالين اثنين من أمثلة السرديّة العربيّة الروائيّة لروائيَّين من أشهر الروائيين العرب في القرن الأخير، وهما نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف، ولا شكّ أنّ لكلّ منهما جمهور كبير من القرّاء العرب بلغ به الإعجاب بهما حداً كبيراً، وبصرف النظر عن طبيعة هذا الإعجاب وقيمته سنطرح هنا وجهة نظر خاصّة لا تُلزِم أحداً بقبولها، في ضوء مصطلح «الفائض السرديّ» حين نجد أنّ رواية معيّنة فيها فائض سرديّ يمكن الاستغناء عنه لأجل أن ترتفع الرواية درجة أعلى في سلّم البراعة، فقد يندفع الروائيّ أو القاصّ أحياناً -بمحفّزات عاطفيّة ووجدانيّة وأخلاقيّة محدّدة- نحو كرم لغويّ زائد عن الحاجة، استجابة لنداء العاطفة الخفيّ العابر لفلترة العقل السرديّ ولأسباب أخرى غير مرئيّة، فينساح بفائض سرديّ إنشائيّ يغطّي المساحة المطلوبة ويفيض
عليها.
يسعى نجيب محفوظ إلى ضبط لغته السردية في خطاب شديد التركيز فلا يشعر القارئ بوجود مفردة واحدة زائدة لا تؤدّي مَهمّة معيّنة، وليس بوسع القارئ حذف مفردة واحدة من غير أن يختلّ البناء السرديّ للمشهد الروائيّ، فثمّة آليّة يمكن وصفها «محفوظيّة» لا تسمح بوجود فائض مهما كان بسيطاً يظهر على سطح السرد في خطابه الروائيّ، وتشتغل بعناية كبيرة وقدرة هائلة على الانتقاء اللفظيّ للمفردات بحسب الحاجة الفعليّة الميدانيّة بلا زيادة أو نقصان، إذ هو يدرك تمام الإدراك والمعرفة والوعي قيمة المفردة الواحدة حين توضع تماماً في مكانها الطبيعيّ الذي لا مكان لها غيره، ويذهب فوراً إلى بؤرة الضوء التي تختزن مزيداً من النور ولا يجرّب سلسلة من البؤر المعتمة كي يستدلّ أخيراً إلى النور، كان الفنان التشكيليّ العالميّ الشهير بيكاسو يقول «أنا لا أجرّب، أنا أجد».
يعدّ عبد الرحمن منيف في طليعة الروائيين العرب بعد المتن السرديّ الأصيل الذي يمثّله نجيب محفوظ، وله روايات كثيرة كانت مثار جدلّ نقديّ وثقافيّ على مساحة واسعة من مسيرة إبداعيّة تجاوزت الثلاثة عقود، صال فيها وجال اسماً روائياً مرموقاً تحتفي به المؤسسات الثقافيّة في كلّ مكان حلّ فيه، لكنّه مع ذلك كلّه تتوفّر معظم رواياته على فائض سرديّ يمكن الاستغناء عنه من غير أن يؤثّر ذلك على البنية العامّة
للرواية.
إذ على الرغم من أنّ الرواية هي أرض التفاصيل إلا أنّ هذه التفاصيل يجب أن تنضبط على وفق ستراتيجيّة عميقة الاقتصاد، وقد تكون طبيعة الموضوعات التي تناولتها رواياته تذهب به إلى الشرح والتطويل داخل حجاج سرديّ لا يشعر الراوي فيه بدرجة الشبع؛ إلا حين يفيض ماؤه السرديّ ويخرج خارج المحيط، فهو يبالغ في التفاصيل والوصف وحتّى في الحوار أحياناً.
حين يريد محفوظ أن يصف زهرة بريّة في مشهد روائيّ يسمّيها باسمها مباشرة داخل سياقها السرديّ المحدّد، ولا يحتاج إلى وصف التراب الذي حولها، ولا الأشواك التي تحملها، ولا مقدار حاجتها للماء، حتّى يصل الكلام حولها عشر صفحات كما يفعل منيف بلا ضرورة سرديّة، بل يختزل ذلك كلّه بجملة واحدة فقط بلا أيّ فائض سرديّ
مربك.