د. كريم شغيدل
لا يختلف اثنان بشأن ثورة العشرين، أو الثورة العراقية الكبرى، كونها ثورة وطنية شاركت فيها مختلف فئات الشعب العراقي وأطيافه، وانها ثورة تحرير، أجبرت المحتل البريطاني على تشكيل الدولة العراقية، ولو بصورة هجينة لتخدم مصالحه، وكانت لها أسبابها السياسية والاقتصادية، وكان ثمة صدى للثورة البلشفية من خلال ما كان يتسرب من منشورات، كذلك لثورة كمال أتاتورك، وأصداء الثورة العربية، والضباط العرب، لا سيما العراقيون الذين كانوا إلى جانب الملك فيصل في سورية، فقد تبلور عندهم طموح لتأسيس دولة وطنية، بعدما رفع السوريون شعار(سورية للسوريين) ما أشعرهم بالضيق، فضلاً عن وعود البريطانيين وشعار مود الشهير(جئنا محررين لا فاتحين) الذي لم يطبق على أرض الواقع، بل ترجم إلى فظاظة وقسوة وتعالٍ وتنكيل بالعراقيين.
امتدت الثورة على مساحة أرض العراق، من الفرات الأوسط إلى الجنوب، ومن الأنبار إلى الموصل وإلى كردستان العراق، فقد تناخت عشائر العراق ونخبه، ووقفوا جنباً إلى جنب، رجال الدين والشيوخ، والفلاحون والأفندية، والأميون والمثقفون، السنة والشيعة والكرد وبقية الأطياف، فتاوى رجال الدين بالجهاد وتحريم التعامل مع المحتل إلى جانب قصائد الشعراء، وفتاوى الشيرازي والخالصي والأصفهاني، تقابلها قصائد البصير والحبوبي والجواهري وغيرهم، ومقابل بنادق بريطانيا العظمى ومدافعها وطائراتها، لم تكن سوى الأسلحة البيضاء من العصي و(المگاوير) وبعض أدوات الزراعة وربما عدد محدود من البنادق، ولا أشهر من أهزوجة (الطوب أحسن لو مگواري).
شكلت واقعة الرميثة الشرارة الأولى للثورة، حين تم اعتقال الشيخ شعلان أبو الجون شيخ عشيرة الظوالم، وقد كان صلباً وحازماً بمواجهة الضابط الإنكليزي الذي أمر بترحيله معتقلاً في القطار إلى الديوانية، لكنّ أبا الجون أوصى أحد مرافقيه أن يخبر ابن عمه بإرسال عشر ليرات عثمانية قبل موعد القطار، وهذه كانت عبارة عن(شفرة)، إذ تعني عشرة رجال أشداء، وبالفعل تم له ما أراد، فقد قدم الرجال وحرروه من معتقله، ثم قاموا بالهجوم لاحتلال حامية الرميثة، وبعدها توالت المعارك في الرارنجية والشعيبة وتلعفر والفلوجة والسليمانية والموصل وغيرها من أرض العراق، واختلطت فيها دماء العراقيين وعلت كلمتهم فداء لوطن واحد من دون أي دعم خارجي، بوازع أخلاقي وطني نابع من الضمير الجمعي العراقي.