رزاق عداي
لعل طبيعة السؤال الفلسفي في العصر الاغريقي الاول وتوجهاته هو الذي حدد تاريخ ومسيرة الفكر الفلسفي اللاحق، فالمهتمون بتاريخ الفلسفة يتفقون على أن القطيعة التي احدثها (ارسطوطاليس) في تغير مسار السؤال الفلسفي هو الذي حقق الاِنعطافة الكبرى في جوهر الفلسفة وشكل اشتغالاتها، فبدلاَ من الخوض في الخرافة والغيبيات، راح الاهتمام ينصب في صميم الظواهر ذاتها.
وعندما تَتَبع العلم الحديث، مشاغل الفلسفة في محاولتها القديمة لسبر غور العالم المحيط بها، وجد انها قد احتوت على الكثير من الافكار والتأملات، والتي عَبَرَت لأكثر من ألفي عام واستطاعت أن تكتنف التجربة الانسانية، لم تزل تحدد اتجاهات وسبل العلم الحديث، أما الفكرتان العميقتان والاساسيان واللتان ظلتا مخيمتين على مسرى هذا الفكر فهما؛ ان الكون يحتوي على وحدات صغيرة لا تنقسم - ذرات، وأن الأنموذج الرياضي الرصين هو الهدف الأخير لأية فرضية او نظرية علمية.
كانت قضية وجود الذرات هي النتيجة الطبيعية لتطور مفهوم المادة، اذ كان تقسيم المادة هو المحاولة الاولى للفلسفة الطبيعية القديمة، ففي خضم الظواهر السريعة الزوال ساد الاعتقاد بضرورة وجود شيء دائم للتغير، الى القول بوجود (مادة اساسية)، وكان العنصر الاساسي هو الماء بالنسبة إلى (ارسطوطاليس) فعليه -كما يبدو- تتوقف الحياة، ثم حدد تابعوه هذا المفهوم بشكل اكثر دقة ومنحوه خاصية (الكيان) وصفة (انه لا يهدم) وعلى هذا - ولكي تصبح الظواهر المتباينة مفهومة - أضحى من الضروري افتراض انواع مختلفة من (المادة الاساسية) يتسبب خلطها او فصلها في التغيرات العديد للأحداث، الا اذا كانت هذه العناصر الدائمة -طبعاَ- شيئاَ خارج نطاق العالم المادي.
تفترض النظرية الذرية الحديثة اجساماَ اولية غير قابلة للانقسام تسمى (الالكترونات، والنيترونات، والبروتونات) وهذه النظرية ايضاَ تحاول اتباع كل الخواص المحسوسة للمواد الى ديناميكية الذرة، غير انها ضرورة التجارب المنفذة، حتى تفاصيلها الاخيرة، قد اوضحت وجود تعارض معين او تناقض داخلي في النظرية الذرية القديمة.
فنظرية (ديموقراطيس) الذرية، من ناحية - تعرف انه من المستحيل أن نفسر الخواص المحسوسة للمادة تفسيراً معقولاً إلا عن طريق تتبع هذه الخواص، فاذا كانت الذرات ستفسر منشأ لون ورائحة الاجسام المادية، فمن الضروري ألا يكون لها خواص كاللون والرائحة..
وعلى هذا فإن النظرية الذرية القديمة تنكر على الذرة بثبات مثل هذه الخواص المحسوسة، غير انه سمح لهذه الذرات من ناحية أخرى بخاصية شغل الفراغ، إذ نستطيع ان نتكلم عن مكان ونظام وحجم الذرات، هنا تعدى (ديمقراطيس) بصراحة رأي سابقيه، فقد انزل المفهوم الاساسي للفلسفة السابقة عن (الموجود) و (اللا موجود) وجعله (خالياً) و(مشغولاً) على التوالي.
أما ما تشارك به النظرية الذرية القديمة بما يجري في النظرية الحديثة فهو في هذا التفكير الاساسي، اذ تحاول ان تفسر التعدد الوصفي للحوادث الفيزياوية الخارجية بربطها بأشكال متباينة يمكن حصرها وتحليلها: ومن هذه الاشكال كان التصوير الهندسي وحده هو الموجود تحت تصرف الفلاسفة الاغريق: والواضح انه سيتعين على النظرية ان تختلف جذرياَ في هذه النقطة، أن خاصية الذرة أو الجسيم الاولي الذي لا ينقسم - في الفيزياء الحديثة - في شغل الفضاء لا تتخذ شكلا اكثر تميزا بالنسبة للخصائص الاخرى مثل لون المادة وقوتها، ففي الجوهر، سنجد انه ليس جسيما مادياً في الفضاء والزمن، وانما هو - بشكل ما - مجرد رمز تتخذ قوانين الطبيعة عند تقديمه شكلا سهلاً.
وستقابل هذه الفكرة الاخيرة في تعاليم مدرسة (فيثاغورس) وقد عبر عنها اكتشافهم للشروط الرياضية للتناسق، ففي دراستهم لذبذبة الاوتار وجدوا أن الشرط اللازم كيما يتوافق صوت وترين هو أن تكون النسبة بين طول هذين الوترين نسبة بسيطة معينة، وهذا يعني أن جملة الصوت ستبدو للأذن متناسقة إذا تحققت علاقات رياضية بسيطة معينة، بالرغم من أن السامع قد لا يدرك ذلك، ويمثل هذا الكشف من أقوى الدوافع للعلم الانساني اللاحق.
اللانهائي للحوادث الطبيعية سيجد صورته الرياضية الامينة في العدد اللانهائي لحلول معادلة ما، ولعل في معادلة (نيوتن) التفاضلية للميكانيكا أفضل مثال، إن الحاجة الى ضرورة ان يولد القانون الطبيعي الواحد -المصاغ فعلا- عددا لا نهائيا من الظواهر التي يمكن فحصها تجريبياً، تضمن لنا في الوقت نفسه الصياغة الصحيحة للقانون الذي يصبح عندئذ صادقاً على الدوام.