هدية حسين
لو لم تكن الروائية البريطانية كلير ماكينتوش ضابطة شرطة تبحث في أمور الجريمة أكان يمكنها أن تكتب رواية بوليسية بهذه المتعة والتشويق والإثارة طيلة 512 صفحة؟ تركتك ترحلين رواية بوليسية اجتماعية من طراز فريد، ترتكز على حادثة حقيقية ظلت تشغل الكاتبة منذ بداياتها في سلك الشرطة، وحينما استقالت لتتفرغ للأدب كانت تلك الحادثة قد أخذت طريقها لعالم الرواية، ترجمت لأكثر من ثلاثين لغة وفازت بجائزة بولار العام 2016 وهي الجائزة الأرفع عالمياً في مجال روايات الجريمة، تدور أحداث الرواية حول جينا غراي، الشابة التي تسببت في دهس طفل يدعى جاكوب في الخامسة من العمر فهربت الى مدينة أخرى وعاشت في بيت ريفي منعزل أمام أحد الشواطئ، تطاردها الذكريات والكوابيس وصورة الطفل وهو جثة هامدة بين يدي أمه.
(ثمة اختيارات صعبة ينبغي اتخاذها على مضض أحياناً) هكذا بررت جينا غراي فرارها وعدم النزول لإسعاف الطفل، فسميت حادثة موته بقضية الاصطدام والهروب وتحولت الى قضية رأي عام، وسيصبح التحقيق في هذه القضية صعباً لعدم وجود خيط تتبعه الشرطة لفك أسرار هذه الجريمة، فليلة الحادث كانت السماء ممطرة والظلام كثيف والكاميرات مشوشة والحادث عنها بعيد، فضلا عن عدم وجود شاهد واحد على ما حدث غير الأم التي لم تر سوى ضوء السيارة وهروب من يقودها.
ترأس النقيب راي ستيفنس فريق البحث بمساعدة كايت المتدربة الجديدة، مع عدد من المتخصصين في علم الجريمة، وكلما توصلوا الى خيط ضاع منهم، وكلما طال الوقت وجد فريق الشرطة نفسه أمام الرأي العام الذي يطالب بالكشف عن الجاني، تسير الرواية على مستويين متوازيين بفصول قصيرة، الأول تحقيقات فريق الشرطة والكشف عن حياتهم الشخصية، والثاني حياة جينا غراي التي تترك المؤلفة لها حرية التحدث عن حياتها بصيغة ضمير المتكلم، وفي بيتها الريفي تحاول جينا غراي أن تبدأ كأنها امرأة ولدت من جديد لا علاقة لها بالماضي، لكن الماضي لا يمضي، ولا يتركها، عاشت حياة تبدو غامضة للناس بسبب انعزالها وعدم اختلاطها، وبمرور الوقت عقدت صداقة مع بيثان صاحبة المتجر الذي تتزود منه بمشترياتها، وساعدتها بيثان كثيراً في بعض الأمور من دون أن تتدخل في خصوصياتها، وقد بقي سر وجودها في اختيار هذا المكان سراً لا يعرفه أحد، غير أن الأسرار لا يمكنها أن تبقى قابعة في قبرها.
جينا غراي كانت تعمل نحاتة تصنع منحوتاتها من الفخار، لكنها لم تعد كذلك منذ تعرضت أصابعها لرضوض ولم تعد لها قدرة على صنع التماثيل، لذلك بحثت بعد هروبها عن وسيلة لكي تعيل نفسها فكانت تلك الوسيلة الرسم على الرمال وتصويرها لعمل كارتات تبيعها في متجر بيثان، وسنمر بالكثير من الأحداث ومنها ارتباطها عاطفياً بطبيب بيطري سيكون له الأثر الكبير لمساعدتها عندما يلقى عليها القبض، لكن عملية إلقاء القبض عليها لن تكون سهلة، وحادثة الاصطدام التي راح ضحيتها طفل في الخامسة من العمر ستفجر مفاجآت كثيرة وتجعل القارئ يمسك بالرواية كمن يركض مع أبطالها للوصول الى النهاية، خصوصاً وأن جينا غراي تعترف بأنها من تسبب في موت الطفل، غير أن عيون الشرطة ترى ما لا تراه جينا غراي، وهذا أصعب ما في الرواية، إذ تحيط كلير ماكينتوش سير روايتها بالمزيد من الغموض وتدير الأحداث بعين يقظة هي عين الضابطة التي عملت لسنوات في فك أسرار الجرائم.
الوصول الى الحقيقة يمشي ببطء يعرّض النقيب راي وفريقه للإحراج إذ تمر سنة من دون أن تُحسم القضية على الرغم من العمل المستمر والمضني في التحريات، حتى تأمر أوفيليا مُحافظة الأمن بحفظ القضية، غير أن كايت المتدربة لم تتوقف، تعمل هي والنقيب راي بتحريات خارج أوقات الدوام، وسيجدان معاً ما يبرر فتح ملف القضية من جديد، ترى ما الذي استجد لتعاد القضية الى الواجهة؟.
في كل فصل من فصول الرواية ثمة مفاجأة تغير سير الأحداث، وثمة شخصيات تظهر يكون لها دور مباشر أو غير مباشر بالوصول الى حقيقة ما كان غامضاً في هذه القضية بالاستناد الى ماضي الشخصيات، إذا أردت أن تعرف شخصاً ابحث عن ماضيه، ومن خلال البحث يظهر طرف آخر سيفاجئ القارئ ويقلب الأمور رأساً على عقب، من هو هذا الطرف وكيف ظل مختفياً حتى بعد مرور سنة على الحادث وما هو دوره بما حدث، وإذا كان هو القاتل الحقيقي فلماذا أخفته جينا غراي حينما استجوبها النقيب راي وأصرت على أنها هي التي تتحمل كامل المسؤولية عن مقتل جاكوب؟، وتبقى الفصول المتعلقة بجينا غراي هي الأكثر تشويقاً حتى نهاية الرواية إذ سيصعب على القارئ تجزئة قراءتها، إذ تتصاعد الرواية بتواتر يقطع الأنفاس، تلك هي رواية تركتك ترحلين الصادرة عن المركز الثقافي العربي بترجمة محمد التهامي العماري في الدار البيضاء
2019.