محمد تركي النصار
ولد عزرا باوند في الولايات المتحدة عام 1885 وتوفي في البندقية بإيطاليا عام 1972.. وكان شاعرا وناقدا أدبيا من طراز رفيع.
يعد من أبرز مؤسسي الحركة التصويرية في الشعر الحديث التي تأثرت بالهايكو الياباني خاصة في الاقتصاد والدقة باستخدام المفردات، كما تأثر باوند بالنحت والرسم والموسيقا، وكذلك بالشعر الإغريقي القديم والرمزية الفرنسية والحروف الصينية.
ويرى الكثير من النقاد بأنه واحد من أهم شعراء الغرب في القرن العشرين إن لم يكن أهمهم اطلاقا. فالكثيرون يضعونه في المرتبة الشعرية فوق ت.س.ايليوت. وقليلون هم شعراء الحداثة الذين كانوا يمتلكون طاقته الشعرية الخلاقة.
قصيدة (في محطة المترو) لباوند هي القصيدة الأكثر تمثيلا للمدرسة التصويرية في الشعر.
وباستخدام قليل من الكلمات يرسم الشاعر صورة واضحة لا تنسى.. ولعلنا نتفق على ان واحدا من أهم الخصائص التي تميز الشعر هو عدم امتلاكه لقواعد ثابتة. والشكل الفني تم تجريب كل أنواعه على مر العصور، وأبعد من كل فكرة متخيلة تحت الشمس وعلى مر الزمن، جرب الشعراء كل شيء تقريبا.
لذلك فإنه عندما تم تقديم قصيدة (في محطة المترو) لعزرا باوند فإنه لم يكن غريبا ولا مفاجئا بأن ما ميزها بالتحديد هو أنها تتكون من أربع عشرة كلمة فقط.. فهي قصيرة جدا ومركزة في تناولها للثيمة الجوهرية، كذلك فهي تلفت الانتباه لأنها لا تحتوي على أفعال، خالقة ندرة حقيقية في مملكة الأعمال الشعرية المكتوبة.
وبالرغم من أن أسلوب القصيدة ليس شائعا فإن هذا لم يكن على حساب الكفاءة كما قدم لذلك باوند بنفسه.
ومثلما ذكرنا آنفا فإن واحدا من العناصر المؤثرة في قصيدة (في محطة المترو) هو أنها بلا أفعال. وبدلا من ذلك تتكون القصيدة من ربط جملتين، كل واحدة فيهما فاعل من دون فعل. ولا داعي للقول بأنه من الصعب أن تكتب من دون استخدام كلمات الفعل، لكن هذا الاسلوب حقق شيئا واحدا بشكل جيد على وجه الخصوص: حقق أسر اللحظة في الزمن. في جملة بلا فاعل لا شيء يحدث، وفي الشعر التصويري خصوصا فإن هذا يعد عنصر قوة للقصيدة:
في محطة المترو
أطياف هذه الوجوه في الزحام
بتلات على غصن رطب أسود
في هذه القصيدة، ربط الشاعر صورتين واحدة بالأخرى. وكل شظية جملة من الجملتين بمفردها لا تتوفر على معنى، والعلاقة بين اللحظتين هي ما تخلق المعنى.
هنا يكون المحرك الحقيقي لهذا العمل هو المجاز مشبها الوجوه للحشود بالبراعم على غصن رطب أسود (مشيرا الى الفرع الرئيس في شجرة).
وفي هذه القصيدة، كل كلمة تم اختيارها لرسم صورة محددة. فعلى سبيل المثال فإن كلمة (أطياف) في البداية توضح طبيعة السفر والحركة السريعة للجمهور، إنه فعل عبور، ولذلك فإن الناس يبدون لمن يراقب المشهد وكأنهم أشباح.
في لحظة هناك وجه واضح وفي اللحظة الثانية يغيب هذا الوجه ولا يمكن للذهن أن يتذكره على الأرجح. إنها أطياف في مكان واحد في مقطع زمني سريع، ثم تختفي الى الأبد.
في الصورة التالية يرى المراقب (بتلات على غصن أسود رطب) في هذه الصورة يواجه القارئ بفكرة جمال واهن، عابر في هذا العالم.
الصورة الاولى من قصيدة (في محطة المترو) مبنية من قبل بشر أما الصورة الثانية فهي ظاهرة طبيعية بشكل كلي.
العلاقة بين الفكرتين ذات طابع تجريدي لكن من خلال الربط بينهما معا يقترح باوند بأن هناك نوعا من جمال ما داخل محطة المترو وبأن أطياف البشر العابرين الذين يتلاشون في المحطة لا يختلفون عن طبيعة البراعم الذابلة الملتصقة بشجرة رطبة.
البرعم يصمد أمام العاصفة ويتحمل المطر لكنه يذبل ثم يموت شأنه شأن كل شخص يدخل ويخرج مغادرا رؤية الكاتب وذهنه.
وبطرق متعددة فإن هذه القصيدة من المستحيل تعريفها، وفيها متشابهات واختلافات بين صورتين وهاتان يمكن تعريفهما بطرق عديدة.
بالنسبة للبعض تقول القصيدة الكثير بخصوص البناء كصورة مجردة من الأفعال ومكونة من أربع عشرة كلمة. في حين ينظر البعض الآخر الى القصيدة بوصفها تعبيرا عن حالة عاطفية غير طبيعية لا تتوفر على ترابط بين الكلمات في القاموس الانكليزي، وكما في كل قصيدة تكون عين القارئ هي ما يعطيها تعريفها ومعناها الحقيقي في المآل
الأخير.