الدكتورة سلامة الصالحي
يعد التكاثر السكاني العشوائي معضلة كبيرة ومحنة ستواجه بلادنا أمام تحديات العصر الاقتصادية والمناخية والاجتماعية والاقليمية، وبينما الدولة والمجتمع ككل سيواجهان هذه المحنة، فإن التحسب لها هو في أخذ الاحتياطات اللازمة وسن القوانين من قبل المشرّعين الممثلين للشعب، أو قانون تقترحه الحكومة على البرلمان في ضرورة تحديد النسل والحد من الانجاب والتكاثر العشوائي في بلد ريعي، وقد تراجعت بناه التحتية والاقتصادية تارة بسبب الحروب وتارة اخرى بسبب الفساد والسرقات، وغياب رؤية تنموية واضحة في جوانب الصناعة والزراعة والتجارة، وكل ما يمت بصلة للانتاج والتنمية المستدامة.
فمعضلة الكهرباء وفشل تجاوزها وعبورها تجعل من بلادنا في صف متأخر في النهضة والعمران، لأنها تشكل عصب الحياة وحصان العربة، الذي انكسرت ساقه ولم يعد قادرا على جرها، إن لم يتم تجاوز هذه المحنة بعد ما يقل قليلا عن عشرين عاما من سنوات وقفت خلفها إرادات دولية واقليمية بعدم إيصال الكهرباء وتطويرها تجعلنا في حالة من اليأس والقنوط في عودة هذا العصب ثانية، لأن بعودته سيتحرك هذا الجسد العملاق من سقوطه وستكون عجلة التنمية والعمل والانتاج بتنشيط القطاعين العام والخاص، وإعادة مجد الصناعة العراقية والزراعة والتجارة الى سابق عهدها وأكثر، وبهذا تستوعب الايدي العاملة وحملة الشهادات الذين يتزايدون كل عام، مطالبين الحكومة بالوظائف وإيجاد فرص عمل لبدء حياتهم، بعد أن وصلت أعداد العاطلين من حملة الشهادات الى الملايين، ويقف خلف هذا التراجع غياب التخطيط الواعي من قبل الاسرة والدولة.
فعدد الاولاد القليل يعطي فرصة للأسرة في التعليم والرعاية الجيدين، مقابل انجاب عشرة أو أكثر ورميهم للاقدار والشارع، يتلقفهم الضياع والادمان والفراغ، في بلادنا التي تمر بأشد فترات ظلمتها، بعد غياب العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وهذا البون الشاسع والفوارق الاجتماعية بين المسؤول والمواطن، بعد أن شرعوا لهم من القوانين، التي تجعل من امتيازاتهم ورواتبهم ما يعمل على تشغيل آلاف مؤلفة من الخريجين، ناهيك عن الرشى والابتزاز اللذين يمارسان علنا وجهارا في مؤسسات الدولة بقبض الكومشونات والحصص، تحت حسرة وألم الناس في أن يحاسب الفاسد واللص والقاتل وأن تأخذ العدالة مجراها لتعيد الامور الى نصابها.
إن مواجهة الزيادة العشوائية والتكاثر اللا واعي للناس ضرورة وطنية وأخلاقية وانسانية، فالبلاد ليس باستطاعتها تحمل ملايين جديدة من التعساء من دون أن تكون هناك خطط وبرامج للحد منها وتنظيم الاسرة وبناء مجتمع عصري وحياة هادئة أسوة بالعالم، الذي حولنا وسن قوانين تجعل من الاسرة ألا يتجاوز عدد الانجاب الاثنين، الى حد يعد الثالث تجاوزا للقانون، إضافة الى منع زواج الاقارب، للحد من ظواهر المرض والطفرات الوراثية الرديئة، إن ترك الناس على هواها في التكاثر وزيادة العدد أشبه بعملية انتحار جماعي سيطيح بالبلاد، ويجعل الأجيال القادمة تخضع لقانون الغاب والصراعات والازمات، لاسيما ان طبيعة الاتسان في هذه الارض تختلف عنها في مكان آخر، ربما بسبب الإرث الملتبس من القيم والعادات، غير الملائمة للعصر وحتى تطرف المناخ وقسوته، تجعل من طبيعة الناس تختلف عنها في أي مكان آخر في هذا العالم.
إن واجب البرلمان والحكومة كجهات تشريعية وتنفيذية، تحتم عليها الوعي بهذا الجانب ووضع خطط تنمية مستدامة واستحداث وزارة الأسرة، والتي يجب أن يكون من أولويات عملها وضع القوانين والأسس، التي تكون عليها الاسرة العراقية الحديثة، لأن خبط العشواء بالانجاب والزواج المبكر وزواج الاقارب والزواج المتعدد، كله سيصدر محنا ومشكلات قادمة في بلد يحبو ولم يقف بعد على قدميه اقتصادا وتعليما وصحة وبنى تحتية، ويواجهه مؤامرات دولية، لإيقافه عند هذا المنعطف على حساب مصالحه في أن يكون بلدا مستهلكا وسوقا لبضائع دول العالم ومنتجاتها. ناسيا أنه البلد الذي يحتوي على أخصب الاراضي وأوفر المياه وأكثر الثروات غنى وتنوعا. نريد أن تكون ثروتنا البشرية غنية وثمينة وليس مجرد أعداد تساق للحرب والموت وإرادات الدول، التي تجعل من مصالحها سكينا تبقر بلادنا وتشل نهوضها. في دول أوروبا تثبت العواصم على ذات العدد من السكان، في براغ مثلا منذ السبعينات عدد الناس مليون، لم يزد ولم ينقص، هكذا تراقب الحكومات أوطانها وتعلمهم بأفضل المدارس ويعيشون بأفضل البيوت والمدن، من دون أن تكون هناك مدارس تضيق باعدادها او مستشفيات تكون الناس فيها أشبه بالتظاهرة، وهذا ما يحصل في مستشفيات العراق ومدارسه، الذي يعيش في الريف ويمارس الزراعة قد يحتاج الى أولاد يساعدونه في العمل، ولكن تطوير الريف وتوعية الناس وادخال التكنولوجيا الحديثة يغني كثيرا في هذا الجانب. لست ضد ارادة الطبيعة، ولكنني ضد أن يأتي الطفل لهذا العالم، وقد انتظرته الشوارع ليتسول ويفتقر، هذا الجانب يرعبني، لما أراه من أعداد من المتسولين، كبارا وصغار في مظهر لا يليق بالعراق العظيم وبغداد الحضارة، ليس هناك عمل حكومي جاد للحد من هذه الظاهرة وتسويتها واخفائها من الظهور، بتوفير فرص عمل ومنع المتسولين من استغلال الشوارع، وجعلها مهنة رائجة تدر عليهم الكثير، وكل هذا يقف وراءه التكاثر العشوائي، الذي جعل من الأسرة عاجزة عن إعالة أطفالها، فريتمي الكثير منهم في أحضان الشوارع، ليكونوا لصوص الغد أو مجرمي الغد.
وإن ازاحة كرامة الانسان تؤدي به الى السقوط، والسقوط مراحل قد يؤدي الى أن تسقط أوطان بكاملها، إن لم تكن هناك نهضة واعية لتنظيم ورعاية الاسرة وافرادها، التي ستنعكس على المجتمع والحياة بشكل عام، فعالم المعرفة سيكون في ضفة ونحن في ضفة. تنظر وتتحسر