د. نازك بدير*
لطالما كان لبنان مقصدًا للكثير من الأخوة العرب، ليس كوجهة سياحيّة فحسب، إنمّا شكّل "النّزْل" الذي تتوفّر فيه الطّبابة والتّعليم العالي والاستشارات القانونيّة. لكن المفارقة، أنّه عقب انفجار الرابع من آب، ومع تلاحق الأزمات الاقتصادية، ونقْص المعدّات في المستشفيات، وشحّ الموارد الطبيّة، جنح عدد كبير من الأطباء إلى البحث عن فرص عمل خارج لبنان، والحال هذه، توجّه المئات منهم نحو دول الخليج، ومؤخّرا إلى العراق.
وتشير مراجعة سريعة للأرقام إلى أنّ عدد الأطبّاء الذين تقدّموا بإفادات إلى نقابة الأطباء بلغ الألف طبيب، ناهيك عن الذين لم يصرّحوا في النقابة، وجلّهم من أصحاب الخبرة والاختصاص، ومن الفئة العمرية التي تتراوح بين 35 و55
عاما.
تفتقد المستشفيات شيئًا فشيئًا إلى ملاكاتها، ما يشي بأزمة صحيّة مضاعفة بالتّوازي مع جائحة كورونا. الأسرّة تكاد لا تتّسع من جهة، في حين يتمّ شغور أمكنة الملائكة البيض من جهة ثانية، ما يهدّد صحّة المرضى وسلامتهم، وتاليًا تدهور سريع للقطاع الصحّي إذا ما استمر تسرّب الكفاءات الطبيّة على هذا النّحو.
هجرة الكفاءات لا تتوقّف عند الأطبّاء، فالأزمة تسرّبت إلى حقل القضاء، بعد أن صارت أسباب العيش شبه مستحيلة في ظل انهيار الليرة اللبنانيّة؛ ثمّة عشرون قاضيًا استقالوا، وأربعون تقدّموا بطلبات استيداع ليتمكّنوا من العمل في الخارج لمدة سنة أو سنتين، وفي غالبيّتهم توجّهوا نحو دول الخليج سعيًا وراء محفّزات تتمثّل في تعيّين البعض منهم رؤساء محاكم، وفي تقديم راتب عند نهاية الخدمة.
ويضاف إلى سرْب المهاجرين أيضًا أساتذة الجامعات الذين تقدّموا باستقالاتهم بعد أن ضاقت بهم سبل العيش، وهم من مختلف الاختصاصات، سواء أكانوا من أهل الجامعة اللبنانيّة أو من الجامعات الخاصّة.
المشهد القائم اليوم يختلف عمّا كان خلال الحرب الأهليّة، صحيح أنّ البعض كان قد غادر بيروت، لكن الأكثريّة صمدت وتحدّت آلة الدّمار والموت. أمّا اليوم، فثمّة أمر آخر يدفع هؤلاء الأطبّاء والقضاة والأساتذة إلى الهجرة، لعله اليأس التامّ من إيجاد حلّ للأزمات التي تراكمت على مدى ثلاثين عامًا.
لبنان يُفرَغ من أبنائه ذوي الخبرة والاختصاص، في حين يبقى الفاسدون ممسكين بزمام السّلطة، يعاينون الانهيار من دون أن يرفّ
لهم جفن.
* أكاديميّة لبنانيّة