كمال عبد الرحمن
الانزياح هو الشعر والشعر هو الانزياح..لعل أول من انتبه الى أهمية اللغة في النص هم (الشكلانيون الروس)، الذين فصلوا بين (خارج النص) و(داخل النص)، ورأوا ان كل ما هو خارج النص ليس أكثر من عالة عليه، ورفضوا التعامل معه، وتبعهم البنيويون في شعارهم (اللغة أولا والنص ولاشيء غير النص)، والحقيقة أن اغلب المناهج النقدية تمشي على هذا النهج.
الشاعر يحتاج أحيانا الى قول مالا يقال ولكن بطريقة غير مباشرة، فيقول اشياء وهو لايعنيها، وانما يعني بها مقاصد أخرى، في شعر زهير بهنام، يكون الانزياح لغايات مختلفة، منها لغوية وابداعية أكثر من كونها غايات لإخفاء حقائق: (ليس ما أقوله عنك، شهوة ماء يعبث بفخذ الوردة/ كل ما أقوله شمس على حداد فيك لم أعلنه عنك، ولاأمسه/ الطلاء الأحمر ينشف كالضوء أمام المرآة/ موسيقى جسد الأسود البائر كأنك ايزيس/ الوقت لايعرف. في أي وقت. يدخل جحيمك).
إن الشاعر يهدفُ إلى إبهار المتلقِّي وشدِّه لقصيدته، مستعملًا عددًا من الوسائل في تحقيق غايته، وما الانزياحُ إلا وسيلةٌ من هذه الوسائل، بل هو أشهرها وأهمها، وجامعها وبوتقتها التي تنصهر فيها؛ فالانزياح من الظواهر المُهمَّة في الدراسات الأسلوبية التي تقارب النص الأدبي عمومًا، والنص الشِّعري على وجه الخصوص، باعتبار أن النص الشعريَّ يُميِّز نفسه بالخروج عن المألوف.
والانزياحُ في اللغةِ يرتبط بالذَّهاب والتباعد والتنحي، وفي كل هذا تغييرٌ لحالة معينة وعدم الالتزام بها، وإن كانت الدلالة اللُّغوية الأولى مرتبطةً بالمكان، فإن الأمر يتوسَّع لغيره، فيقال: زاح عنِّي المرضُ أو الباطلُ: زال عنِّي.
وقد اشتَهَر مفهومُ الانزياح وانتشر في الدراسات النقدية والأسلوبية، وكان السببُ في الاهتمام بهذا المفهوم يرجع بالأساس إلى البحث عن خصائصَ مميزة للغة الأدبية عموما، والشعرية خصوصا.
كما تشتغل قصائد زهير بهنام بردى في مجموعته (حضارة بصيغة جسد) بصورة عامة على الاستعارة التي هي صورة من صور (المجاز) في اللغة، وبخاصة قصيدته المعنونة بعنوان المجموعة نفسها،إذ تتشكل هذه القصيدة من خلال عدد كبير من الصور،يقوم بعضها على الجدلية، والأخر على التناقض وغيره على المفارقة وغير ذلك: (رجل حراسه جثث، ينظر الى كأس، مازال جسده مفتتا على المنضدة/ ليس كل ما أفعله شهوة إنما أنقاضي أدفنها في غبار عتيق/ لعلي سأكون أبهى. حين أجتاز عتبة الضوء، الى الظل/ لعل التعويذة وهي تتقدمني عين نعش/ لعلي لن أكون وحدي، أشيع النساء إلى تاريخ مثواي/ أتوهم أني حين أتدلى من بئر، أكون يوسف شبه ميت/ يرسم فوق الليل.
حوار أخوته في حضرة الحي القيوم).. والاستعارة ببساطة شديدة هي(تشبيه حُذف أحد طرفيه الرئيسين (المشبه) أو (المشبه به) بعد حذف الأداة ووجه الشبه)، وهي نوعان (التصريحية)و(المكنية).
واساس جمال الاستعارة في كل الأحوال (ان تكون معبرة عن شعور الاديب (النّاص)ملائمة للفكرة متسقة مع غيرها من الصور في الموضوع)، كما ان هذه الاستعارة لها القدرة على (جعل غير المحس محسا وغير الشخص شخصا) وبإمكانها (خلق صور خيالية متعددة باستعارة شيء لشيء اخر ليس من طبعه)، وكذلك فإن فيها (تحولا من طبائع التقليد الى طبائع التجديد والتخيل)، ولكن هذا كله لايقارن بتعريف الاستعارة على انها (حاجة نفسية يُروى بها ظمأها بالخروج من قمقم المعاني الجاهزة (التقليديةـ المكررة) الى مجرات التخيل والسمو الوجداني مرورا بالرؤى والكوابيس والخرافات والاساطير والتواريخ وغير ذلك مما يجعل النفس في لهاث دائم لخلق الصورة الاخرى التي تؤطر ابداع النص بالاستعارة التي هي منفذ من الاحتباس نحو فضاءات لدى الناص).
الاستعارة عند زهير بهنام بردى لا تنزل الى مستوى التشبيه التمثيلي (التقليدي) بل تسمو الى أعالي الكلام حيث كما نراها او نتخيلها من خلال النص،فليست الاستعارة إلصاقا قسريا او فوضويا لدالّين لغويين لايتعالق فيهما اللفظ مع سر أسرار المعنى، بل هي فلسفة خلق (المعنى الخاص) عبر تشكيلات لفظية أخّاذة منتخبة بوعي بلاغي راقٍ ترفع المعنى عن مستوى (التشبيه الكلاسيكي) أو (التخيل المنقوص) او (الاسطرة المهلهلة) او (العماية التي تدعي الغموض) كما في قصيدة(ظلام يسقط في الماضي) :
أتعجب الليل لاينام الموتى يلقون مناشيرهم في المتاحف والحانات والشوارع ويصلون قرب الكاتدرائيات حياة تتدحرج مقلوبة تأتي كمومياء مصقولة تبتسم خلف زجاج المتحف مقبرة ترتعش من البرد وتوقد خشب توابيتها والفراشة مازالت بلا أجنحة تتكلم طويلا عن أفاعٍ تمشي باستمرار لصق الحيطان شعارات تحلق في السماء وتعلق دموع الحرب.
إن الاستعارة هي ابنة الانزياح تمر ببصماتها على مسامات النص بطرق مباشرة أو غير مباشرة،اي بقدر ما يسمح لنا ذكاؤنا من طرح جدليات قد يصل بعضها حداً تشطح بنا من خلاله التخيلات بعيداً،ولكن هذا لا يخرجنا من بلاغة(حضارة بصيغة جسد) للشاعر زهير بهنام بردى أو يضعنا في تكهنات وافتراضات اخرى،لأنّ زهيرا كتاب مفتوح امام من اراد هو ان يكون مفتوحا لهم فحسب،ونحن بحاجة الى(شعرية القراءة)التي قال عنها ادونيس:
((في ظني انها قضية اساسية ملحة،لا بكونها نوعا من نقد النقد وحسب،بل لأن للقراءةايضا جمالية خاصة تفقد حين تفقدها، جدواها وقيمتها،ان قراءة النص الادبي تقتضي ادبية القراءة،وتلقي الجمال يفترض جمالية التلقي، او لنقل بعبارة ثانية،ان ادب الكاتب،يوجب ادب القارئ)).
إن بإمكان الشعر ان يقول ويصرّح ويصرخ ويحب ويعشق من دون ان يعلن ذلك امام الملأ، وهذا هو الانزياح، وهذه هي الاستعارة، كما وجدناها في ديوان (حضارة بصيغة جسد) هي لغة خاصة منزاحة لغة، تشتغل على الرمز والتأويل خارج اللغة التقليدية وقد نجح الشاعر بذلك وأبدع.
فحوى العقوبات الأوروبية الجديدة ضد روسيا
الأنواء الجوية: أمطار وثلوج بدءاً من الغد
الأنواء الجوية: محافظتان تسجلان درجة حرارة 3 مئوية غداً
التخطيط تعلن عن الأسئلة الخاصة بالتعداد السكاني