مقالات
علاء هادي الحطاب
مقياس حيوية الأمم والشعوب تُقاس، فيما تُقاس فيه، بمدى تغلبها على الصعاب والمحن التي تمر بها، وبمقدار ما تخرج هذه الأمة بشعبها إلى بر الأمان بمقدار ما تقدم أيضاً من إمكانية تطورها وتقدمها في مستقبلها وتجاوز أزماتها المستقبلية.
العراق مرَّ بمحن وصعاب كثيرة منذ تأسيسه كدولة، وقبل ذلك كأمة، فالانقلابات وتشكيل الحكومات وعدم الاستقرار السياسي كانت السمات الأبرز لهذه الدولة، مروراً بحروب داخلية وخارجية وحصار اقتصادي لسنوات وتفجيرات وعمليات إرهابية، وكل ما تقدم حصد الكثير من أبنائه وأثر على طبيعة سلوك مجتمعه. لكن الأزمات كثيراً ما تنتج لنا لوحات جميلة من التكافل و “الغيرة” والشهامة، وهنا لست بشاعر أحاول نظم كلمات من الخيال لأرسم مشهداً وردياً بعيداً عن الواقع، فليست بعيدة حملات التكافل التي رافقت بدايات أزمة جائحة كورونا وإغلاق الطرق والمحال وتوقف حياة الناس وتضرر أصحاب الدخل المحدود، فضلاً عن الفقراء والمعوزين، شاهدنا كيف انبرى أبناء هذه الأمة للتكافل فيما بينهم بتوزيع المواد الغذائية وغيرها من حاجات المواطن، وقبل ذلك في تحرير مدننا من قبضة الإرهاب، إذ رسم العراقيون أروع مشاهد التآخي والتآزر، إذ احتضن أبناء مدن الجنوب وإقليم كردستان إخوانهم النازحين من المحافظات المحتلة من قبل الإرهاب لشهور وسنوات.
في المقابل، هناك من يعتاش على الأزمات ولا يفكر إلا بالربح، وإن كان جشعاً، في بدايات أزمة كورونا ارتفعت أسعار بعض أنواع الأدوية أضعافاً مضاعفة، كذلك بعض المواد الغذائية، لكن الأمر لم يدم طويلاً حتى أعاد “أصحاب فعل الخير” الأمور إلى نصابها وتجاوزنا، إلى حدٍ ما، هذه الأزمة بحال أفضل من دول جوار عديدة على الأقل في جانب توفير احتياجات الفقراء.
اليوم، ومع ارتفاع أسعار الدولار وتأخر رواتب الموظفين، يحاول ذات تجار الأزمات استغلال حاجة الناس بجشعهم وأنانيتهم دون الشعور بالآخرين، فبين ليلة وضحاها رفعوا -وهنا أتحدث عن تجار الأزمات لا جميع التجار- الأسعار فوصل بعضها إلى الضعف مع أنهم عملياً كانوا يبيعون ذات البضاعة التي اشتروها بسعر الدولار القديم، وهذا يؤشر فقدان قيمية “عمل الخير” لدى هؤلاء، الأمر الذي سيعود وبالاً عليهم لأنهم يرابون بطريقة أخرى، وما فارق الربح الوفير المتحقق من هذا الجشع إلا وقود يعدونه لحرق أموالهم.
لذلك نحتاج إلى إحياء قيم التكافل والتآخي فيما بيننا، وهذا الأمر يأتي من خلال عمل جاد تقوم به مؤسسات حكومية وغير حكومية عديدة ، بل إن المؤسسات غير الرسمية أكثر تأثيراً في إحياء قيمية “فعل الخير” والمعروف فيما بيننا، ورفض جشع تجار الأزمات ومحاربتهم من خلال فضحهم ومقاطعتهم اجتماعياً قبل كل شيء، فلو أنكر كل فرد منا فعل بائع، أي بائع لأية بضاعة، استثمر هذا الأزمة ورفع سعرها فوق الارتفاع الطبيعي، لأسهمنا جميعاً في لفظ هؤلاء وفرزهم ومقاطعتهم، ولو كانوا إخوة أو أقرباء أو أصدقاء لنا، لو بدأ كل واحد منا بنفسه في رفض الجشع ومحاربته من جانب، وإحياء قيمية التكافل من جانب آخر لصنعنا المعجزات في تجاوز أزماتنا ومصاعبنا.
كلنا مسؤولون عن ذلك: النُخب والأكاديميون، ورجال الدين وصناع الرأي العام وطبقة الموظفين والفنانين والرياضيين والمشاهير ووسائل الإعلام وكل مؤسسات مخاطبة الجمهور والتأثير فيه، فضلاً عن المؤسسات الرسمية المسؤولة عن إنفاذ القانون، كلنا مسؤولون عن ذلك، لأننا إن تركنا الأمر ” كأفراد” سنتضرر جميعنا “كمجتمع”، لذا علينا أن لا نقف مكتوفي الأيدي نندب حظنا ويلوم بعضنا البعض الآخر، بل نعمل جميعاً كل من خلال دوره ومسؤوليته ومساحة اشتغاله، واثق أننا قادرون على ذلك.