ثقافة الرسوم الجمركية

مقالات
  • 27-10-2020, 05:05
+A -A
ياسين النصير
تتداول مواقع الاتصال الاجتماعي والسوشيال ميديا والصحافة، وحتى الأحاديث في المقاهي قضية السيطرة على المنافذ الحدودية للعراق، ليس من أجل مواردها المالية فقط، وهو ما يلازم وضعنا الاقتصادي المربك، إنما من أجل فهم ماهية الهوية الوطنية، ففي بلدك لاتقول أنا عراقي، بينما في بلد آخر تفصح عن هويتك العراقية، لايكفي جواز السفر تعريفًا بك إلا خارج العراق، بينما وأنت في الداخل تحتاج إلى مجموعة هويات للتعريف بك، لأن الحدود الداخلية تفرضها السلطة المهيمنة، وعندما تكون السلطة قامعة، ستصبح متهما دون تهمة محددة، وبقدر ما تتعدد الهويات الداخلية تطمئن السلطة لمجتمع ممزق.
معنى أن تكون للدولة حدود يعني أن أي نقطة حدود هي قمة هرم للبلاد. وما مفهوم المنفذ الحدودي إلا مفهوم الباب أو العين أو الفم أو الحواس لجسد الدولة. وعلينا أن نفهم معنى الحواس للدولة العراقية. المنافذ الحدودية ورقة بيضاء ذات وجهين، كل وجه يحمل علم الدولة التي تقابله، هذه الورقة صارمة الخطوط وتحمل إعلانا بأننا هنا، بينما الآخر هناك، وأن اجتياز الخط الفاصل بين دولتين يعني عبورك بين علمين، كما لو أنك قلبت الورقة وانتقلت للصفحة الثانية. ويترتب على هذه الانتقالة الرسوم والسلوك الثقافي الذي يعني ضمنًا أن الحدود جدران وأسيجة ونقاط مراقبة ومدونة للأسماء.
البعد الثاني هو أن الترسيم الخرائطي لا يعين مساحة البلاد فقط، بل يحدد الرسوم الجمركية، أي الإعلان المادي عن العبور، وهذه السياقات المتكافئة ترسم ثلاث نقاط أساسية؛ الأولى: أن معنى الرسوم هو الدخل المادي لخزينة الدولة، وهو ما يشكل سيادتها على ارضها، والثاني: أن استيفاء الرسوم يعني قوة الدولة واجراءاتها وفرض سلطتها، الداخلية وبعكس ذلك يدل الوضع على اختراقات غير معروفة من قبل الآخرين الثالث: إن هذه الرسوم ترتبط بتاريخ السيادة منذ القدم، أي أنها تأسس بتأسيس الدولة، والبلدان التي لا تاريخ لها، لاسيادة لها، فالرسوم الكمركية تثبت حدود البلاد المعنوية فضلا عن البروتوكولية.
الجماعات التي تتماهى مع دولها تدرك تمامًا أن "الهوية الرئيسة، والرسمية جدًا، والقوية والقسرية هي الدولة بحدودها، ورسومها، وأحزابها الحاكمة وسلطاتها"، هذا ما يقوله إعجاز أحمد، عندما رسمت خارطة باكستان مستقلة عن الهند. 
النقطة المهمة الأخرى، وربما لم تؤخذ في سياسات الدول بالأهمية، وهي المهمة الثقافية، ويبدو أن ليس من أحد في بلداننا يفكر بها، لأنها من مهمات الاشتغال الثقافي والفكري لدور الآداب والثقافة في صياغة هوية البلاد. إن إلغاء الحدود بين دول اوروبا المنضوية تحت معاهدة "شنجن" لا يعني أنها بلا حدود، فحدودها ممتدة في أجهزة الدولة الأخرى في سجلاتها ومطاراتها ونقاط عبورها وملحقاتها في العالم، ولذلك تبدو الحدود مفتوحة. مما يعني تداخلا ثقافيا بينها. وهو ما يعني الحرية والثقافات المشتركة وتفتيت المراكز المتحكمة وتوسيع العلاقة بين هوامش وضواحي المدن وكسرا للمسافات الطويلة بمرافق مشتركة وبتقاليد متقاربة وبتداخل الاعلانات والمنشورات التي تعنى بالثقافة المشتركة.
لا تصنع الحدود ثقافة مصطنعة إذا كانت الإرادة في ترسيمها قائمة على عمق تاريخي، ولذلك يمارس الأقوياء ثقافة التغيير المستمر للمنافذ من خلال سلطتهم اللامرئية، إذ مارس الشاه الإيراني هذه السلطة عام 1975 عندما تخلى عن مساعدة الكورد، لذلك تخضع الحدود لمرونة العلاقات ولقوى التأثير، ومع أنها تبدو خارجية ولا تتصل بحياة المواطن اليومية، إلا أنها من التأثير الكبير على حياة المواطن اليومية عندما تخترق ولا يستطيع البلد التحكم بها، تصبح حدود البلاد هذه المرة مرسومة داخل المدن، وهذا التمزق عشناه في السنوات الطائفية عندما توزعت المحلات وأزقة المدينة واقضيتها ونواحيها على انتماءات العراقيين. فأصبحت حدود العراق داخلية متخلية عن تلك التي تحادد البلاد الأخرى. بإمكاننا أن نشعر بكياننا الثقافي الموحد عندما تستوطن أنفسنا تلك القدرات على امتلاك الهوية الوطنية. فقضية المنافذ لا تؤخذ بمعاييرها المالية التي يجري الحديث عنها كثيرا فقط، بل بمعاييرها الثقافية والهوياتية والتاريخية، فهي الأمكنة الأكثر اشتغالا بمعنى الدولة المستقلة.