ثقافة وفن
قدرُ اللغة بوصفها أخطر أداة مركزيّة للتفاهم بين البشر أن تكون معلنة وحاضرة وحيّة وصريحة وفصيحة وقادرة على تحقيق التواصل بين الأفراد والجماعات في أعلى درجات التداول، إذ لا يمكن أن تغيب اللغة عن مجالها الحيويّ المعدة أساساً له، لأنه بغيابها تتعطل أدواتها وتكف عن عملها وقدرتها على تحقيق ما وجِدت أساساً لأجله، ويتجلّى حضور اللغة في "الحروف" كتابة و"الأصوات" نطقاً، لكنّها في كل موجة كلامية تتضح بالمعنى والدلالة والقيمة وطبيعة الأداء، تترك خلفها بقعاً أرجوانية من الصمت الحامل لكلام مفقود آخر بنكهة أعمق ودلالة أكثر خفاء واستتاراً وتحدياً للكشف والاكتشاف.
إنّ هذا الكلام المخبوء المكتنز بمعانيه وعلاماته وإشاراته لا يمكن التقاطه بسهولة ويُسرٍ، لأنّه عصيّ على الالتقاط المباشر، ويحتاج إلى أدوات تفكيك خاصّة وفهم مختلفة لا يمتلكها سوى قرّاءٍ من نوعٍ خاصٍّ يمتلكون قدرةً على التأويل، وقد يتوزّع هذا الكلام المخبوء بين ضمائر الناس البسطاء ويكمن في طبقات خفيّة من مُتخيّلهم، وهم يتعاملون مع ما يكتنز في نفوسهم من ثروة كلاميّة مدهشة بطريقة عفوية أقرب للبدائيّة، تعبّر بحريّة عن هذا المتخيّل في أوقات بعينها يتحرّرون فيها من الضغط الخارجيّ في مجال "التابو" الدينيّ والاجتماعيّ، وينفّسون عمّا في يعتمل في دواخلهم وأعماقهم من "مكبوت" لا يحقّ له الظهور إلا في مناسباتٍ وظروفٍ بعينها، عن طريق كشف هذا المخبوء والتصريح به داخل فضاء من اللاشعور الجمعيّ يحميهم ويوفّر لهم غطاءً شعبياً كافياً.
ثمّة مقولة أشبه بالمثل في قّوة تداولها وانتشارها هي "الكلام ما بين السطور"، بمعنى أنّ السطور المكتوبة تعبّر عن الخطاب الذي يرغب الكاتب بإيصاله إلى جمهور المتلقّين على نحوٍ مباشر، وعلى هذا الجمهور استقبال هذه السطور لفهم المعنى المُراد من السياق التعبيريّ لها وما تعنيه من دلالات متعاهَد عليها بين طرَفي الكلام، لكنّه يختفي ما بين هذه السطور خطابٌ آخرُ أبيضُ لا يُرى يُصطلح عليه "المسكوت عنه"، وهو يمثّل "اللغة المفقودة" في ظاهر الخطاب والمختفية على نحوٍ ما في باطنه.
قد لا يتمكّن أيّ قارئ من التقاط هذه اللغة المفقودة لأنّها بحاجة إلى آليّات استقبال تأويليّة غير تقليديّة بوسعها الحفر القرائيّ ما بين السطور، إذ هي حروف صامتة ومضمرة تتحرّك في ظلال الخطاب المباشر للكلام وفيه ما يحيل عليها ويشير إليها ويلمّح لها، حين نصف من يستطيع قراءة هذه السطور الخفيّة بأنّه "يقرأ الممحو والمكشوف" تعبيراً عن قدرة فائقة وكفاءة استثنائيّة لقراءة مستويَي الكلام.
الصمتُ لغةٌ أخرى تناظر الكلام وتقف على الضفة الأخرى المقابِلة والمواجِهة له كي يكون المعنى الآخر المضادّ له، فالصمت هو اللا كلام مختلفاً عن السكوتُ الذي يأتي بعد الكلام ليمثّل لغةٌ أخرى أيضاً لها فقهها وموقفها من الكلام السابق عليها، فحين نصمت بإزاء كلام يُقالُ أمامنا فقد يعكس هذا الصمت موقفاً محدّداً من "الرفض أو القبول" للكلام المقول، وذلك بحسب طبيعة الاستجابة والتعبير عنها وتكييف موقفٍ ما منها، فثمة لغة مصاحبة للغة الكلام هي لغة الإشارة التي لها فقهها أيضاً وهو فقه علاميّ يخضع لحركة الصورة مثل الإشارة والإيماءة وغيرهما.
ترتبط لغة الصمت بعوامل أخرى تحيل على معناها أو تفسيرها، فثّمة مثلٌ متداول أيضاً يقول "الصمت يعني القبول" لكنّ هذا ليس دائماً بالتأكيد فسياق الصمت وطريقة استجابته لفضاء الكلام هو الذي يحدّد المعنى، ومثلما يعني الصمتُ القبولَ في حينٍ فإنّه يعني الرفض في حينٍ آخر مناقض له، على النحو الذي يجعل من السياق وعوامل التلقّي المصاحبة مثل ردّ الفعل الجسديّ لكثير من أعضاء الجسد هو من يحدّد معنى الصمت على نحوٍ دقيق، بين صمت يحيل على القبول والرضى بفرحٍ وطمأنينةٍ وبهجةٍ واضحةٍ يستحيل إخفاؤها، وصمت آخر يحيل على الرفض والاستنكار والامتناع بروحٍ متوتّرةٍ من النفي والردّ والنكران.
اللغة المفقودة هي اللغة الكامنة والمضمرة والمنتشرة في أعماق وجدان الناس والمتوزّعة على مساحات قلوب البشر وضمائرهم الباطنيّة العميقة، وتريد أن تقول حين يُتاحُ لها ذلك ما لا يمكن أن يُقال في ظروف اعتياديّة وطبيعيّة، ثمّة أحلام ورؤى وأناشيد وأغنيات وألحان دفينة في الأعماق المعتمة التي لا تصلح للاستظهار، ينفق الإنسان كثيراً من الآهات والضحكات والصيحات والدندنات الذاتيّة الخاصّة في سبيل استخراجها على النحو المأمول، غير أنّها تبقى راكسةً في أسفل طبقات المشاعر وأكثرها ظلمةً وقتامةً وغير قابلة للتصريح، على الرغم من أنّها تموّل هذه الآهات والضحكات والصيحات والدندنات بكثير ممّا يحيل عليها من معانٍ لا تخلو من التباسٍ وريبةٍ، وهي تشكّل أحياناً مفارقات مدهشة كأن تغنّى مواويل شعبيّة في مناسبات ذات طبيعة جمعيّة تحيل على دلالات أيروسيّة واضحة وصريحة، ويتلقّاها المجتمع بكثير من الإصغاء والتفاعل حتّى لو كان أفراد هذا المجتمع في أعلى درجات المحافظة والتقليديّة، في حين لو تطرّق إليها في مناسبة أخرى لا تحظى بحراسة اللاشعور الجمعيّ لأقام المجتمع الحدّ على قائلها، بوصفها خراقاً للتقاليد الاجتماعيّة التي تضع حدوداً للكلام يستحيل تجاوزها، هذا فضلاً عن المستوى الآخر الموحي غير الصريح والمحتشد بهذه المعاني الممنوعة في اللغة الفردية المباشرة.
يحتلّ الوجدان الشعبيّ لدى جميع الشعوب والأمم مساحة واسعة من طبيعة التفكير والثقافة والحضارة الإنسانيّة على نحو عام، لذا يجب النظر إليها بعين التركيز والعناية الفائقة حين يرغب أيّ شعب من شعوب الأرض أن يكتشف مخزوناً حضارياً يخصّه ولا يمكن التفريط به، وهو بحاجة دائمة إلى اكتشاف مستمرّ لأنّه يتوالد من داخله ويؤلّف إيقاعاً خاصّاً به لا بدّ من فهمه والإحساس به واستثماره في عمليّة إعادة إنتاج نوعيّة خاصّة، وهو وجدان حرّ كامل الحريّة ولا يستطيع أحد التشكيك فيه أو محاسبته مهما كانت الأسباب، على نحو يكون فيه على مستوى عالٍ من التأمين على وجوده ضمن حالة من التضامن الوجدانيّ الشعبيّ، لا يمكن المساس به لأنّه محفور في الذاكرة والوجدان والضمير والجسد والروح على حدّ سواء.