النجف الأشرف- علي جاسم السواد
تصوير حيدر فرمان
بين قبور متباعدة، جلست امرأة تفتش عن قبر ولدها ،الذي لم تستطع وداعه بسبب وفاته بفيروس كورونا، ملامح الوجع واضحة على ملامحها، أم تفقد ولداً من دون وداع، لحظات مؤلمة جسّدتها تلك المرأة وغيرها ،لكن من بعيد، فالخوف من الإصابة بالوباء لا يزال قابعاً في قلوب الناس ،على الرغم من أن طريقة دفن الموتى في هذه المقبرة ،تتم بإجراءات تجعلها آمنة وسليمة وتمنع انتشار الوباء عن طريق الموتى.
في مقبرة موتى كورونا بأطراف محافظة النجف الأشرف، حكايات انطوت مع أصحابها، وذكريات لم يعد هناك من يدونها، فالوباء اللعين يمنع الناس من زيارة القبور، لكنها لم تمنع تلك المرأة الراسخة أمام قبر ولدها، تتلفت، يجوب صمتها توجس صمت القبور ، لتتباعد نظراتها علَّها تستطيع لملمة تباعد القبور في ما بينها !!، تنظر الى قبر آخر، وتتجه صوب القبور الأخرى وكأنها تفتش عن شيء!، توقفت، كسرت الصمت، وبصوت يستحضر معاني الأمومة المجروحة صرخت على قبر ابنها، لم تمت، إنك في عراق آخر يا ولدي.
هكذا بدا المشهد في مقبرة كورونا، نعم عراق مصغر بعد أن أصبحت هذه الأرض تضم المتوفين جرّاء هذا الوباء من كل الطوائف والأديان ،فحسين وعمر وقاسم يجاورون أوديشو وسركون ، وعربيٌ يجاور كردياً وتركمانياً، وكأنهم يعيشون في الحياة وليسوا موتى ،فهذا هو بلدهم يجمعهم تحت الأرض من دون النظر الى الطوائف والقوميات.
تجربة هذه المقبرة وعلى الرغم مما تحمله من ألم ووجع ،إلّا أنها تمثل انموذجاً حقيقياً لوطن اسمه العراق، ففي هذه الأرض دُفنت أجساد لمختلف الطوائف والأديان ،كل حسب معتقده ،وهو ما أكدته فرقة الإمام علي(ع) القتالية ،التي تتولى دفن جثامين المتوفين جراء فيروس كورونا، وسط هذه المشهد التراجيدي كان لوكالة الأنباء العراقية (واع) حضوراً ميدانياً في المقبرة لتروي حكاية وطن يوحّد أبناءه حتى بعد الموت.
فسيفساء الموت
المستشار الإعلامي لفرقة الإمام علي(ع) القتالية طاهر الموسوي قال لـ(واع): إن" المقبرة استقبلت جثامين المتوفين من جميع محافظات العراق ،ومن كل المذاهب والقوميات ، هنا يرقد العربي، الكردي ،التركماني وأيضا هنا يرقد ثلاثة من أخوتنا المسيحيين ،تم دفنهم وفق طقوس خاصة بهم وبحضور ذويهم ،هذه المقبرة لكل العراقيين من دون استثناء تُجرى عليهم جميع الأمور الواجبة قبل الدفن ،المسلم يدفن وفق طقوسه المطلوبة ،وأيضا المسيحي بحضور ذويه ،تم دفنه حسب طقوس ديانته ،وكتب على قبره عبارات من الكتاب المقدس"، لافتاً الى أن "عدد القبور في مقبرة وادي السلام الجديدة في النجف الأشرف حتى الآن وصل الى ما يقارب أكثر من 780 قبراً" .
وأضاف الموسوي أن " فرقة الإمام علي(ع) القتالية لا تكتفي بدفن الموتى فقط ،وإنما تواظب على ممارسة جميع الشعائر الأخرى ،منها قراءة القرآن كل يوم وإقامة مجالس العزاء بالإضافة الى توزيع الطعام كل ليلة خميس وزيارة الائمة الأطهار (عليهم السلام) ،بالإضافة الى إيقاد الشموع ليلة الجمعة.
وأشار الى أن"بناء القبور يتم على نفقة الفرقة ،وأسرة المتوفى لا تتحمل أي أجور أو أي اتعاب ،والأرض مجانية تم تخصيصها من محافظة النجف الأشرف، وبالنسبة للمسلمين يتم بناء القبور وتجهيز الموتى وفق الشريعة الإسلامية ،ليس فقط الواجبات نؤديها هنا على الميت بل حتى المستحبات من صلاة الميت وغسل وتكفين وزيارة الائمة والعقيق والمسبحة الحسينية والتلقين في القبر، كل هذه الإجراءات تقام على المتوفى من جائحة كورونا الوبائي من أبطال فرقة الإمام علي(ع) القتالية ،أما غير المسلمين فيتم دفنهم حسب دياناتهم".
طقوس الدفن
وفي مكان آخر من المقبرة كانت ل(واع) وقفة مع الشيخ محمد باقر المحمدي ،وهو أحد طلبة الحوزة العلمية ،الذي تحدث عن طقوس الدفن قائلاً: " هنا في المقبرة نقوم بالإجراءات الشرعية للمتوفين كافة، وبالنسبة للرجال نقوم بداية بتغسيل المتوفى ،ومن ثم تكفينه، والمرحلة الأخيرة التحنيط والصلاة عليه ،ومن ثم يتم دفنه بالطريقة الشرعية" .
وتابع : "أما بالنسة للنساء فنكتفي بالتيمم بدلاً من التغسيل ،بسبب عدم وجود كوادر نسائية خاصة معنا في هذه المقبرة ويتم التيمم من خلال جلب أحد أقارب المتوفية ونعلِّمه طريقة التيمم بإشراف كوادر من طلبة الحوزة العلمية، ثم يقوم قريب المتوفية بعملية التيمم لها حسب قرابته منها ،إن كانت والدته أو أخته ،وبعدها نزوده بمادة التحنيط (الكافور) ،ثم بعد ذلك يُصلى على المتوفية نفس ما تقام الصلاة للرجال ،وتدفن حسب الطريقة الشرعية، ونقصد بالدفن على الطريقة الشرعية ،وضع المتوفى على جانبة الأيمن ووجهه متوجهة الى القبلة ،هذا فقط الواجب في الدفن".
وأوضح أنه" في ما يخص الدفن بالنسبة الى المذاهب الأخرى ،حيث تم استقبال ثلاث جثامين من إخواننا المسيحيين ولديهم طقوس قبل الدفن يتم اكمالها في بغداد وباقي الإجراءات تكون في مقبرة وادي السلام الجديدة، حيث يتم وضع الميت في التابوب على قفاه (أي على ظهره) ووجهه متوجهة الى السماء ،من ثم يتم دفنه وحسب طلب ذوي المتوفى تتم كتابة عبارات من الكتاب المقدس فوق قبورهم، بالإضافة الى اسم المتوفى وتاريخ وفاته" .
أسطول نقل الموتى
وعن عملية نقل الموتى وجلبهم الى المقبرة من محافظاتهم قال سرمد خلف ابراهيم من مديرية الطبابة في الحشد الشعبي: إن "مديرية الطبابة في هيأة الحشد الشعبي وضمن معاونية شؤون الشهداء والمقاتلين ،بادرت بنقل متوفي ضحايا كورونا من محافظات العراق الى مقبرة النجف ،حيث تم تخصيص اسطول كامل من الكوادر في سبيل سرعة نقل المتوفين من المستشفيات الى المقبرة ،وأن طبابة الحشد متواجدة في كل وقت منذ أيام حرب داعش ،وتلبية لنداء المرجعية لبينا هذا النداء بأول عملية وفاة لجائحة كورونا والحمد لله والشكر والتوفيق من الله باشرت طبابة الحشد هذا العمل ،حيث يتم نقل المتوفين بسيارات الاسعاف الى المقبرة".
وأضاف أن" أول شيء نقوم به ،هو تعفير كامل السيارة والجنازة ،ومن ثم يتم نقل الجنازة الى المغتسل الخاص بضحايا كورونا، وهنا تبدأ عملية الغسل والتكفين داخل سيارة خاصة تم تخصيصها كمغتسل تحت إشراف رجال الدين من الحوزة وكوادر الطبابة في غسل وتكفين ضحايا وباء كورونا ،السيارة مجهزة بكامل الأمور الطبية والصحية ،بحيث تتحمل التعفير في سبيل ضمان صحة الكوادر التي تعمل بالغسل والتكفين وتتم مراسيم شرعية كاملة وبعد ذلك تكون المرحلة الأخيرة ".
وتابع أن"التعامل مع المتوفين وكأنهم أهلنا وتخصص أرض لاخواننا المسيحيين بالقرب من أرض الدفن الخاصة بالمسلمين، وهي إجراءات شرعية وحققنا لهم ما يبتغوه من صلاة خاصة بهم وكتابات على قبورهم حسب تقاليدهم التي سنت لهم هذا الشيء ،وأخيراً هم كلهم أهلنا ولم نفرق بين هذا المسلم أو ذلك المسيحي أو من أي طائفة أخرى ،الكل عراقيون ولكل ديانة لها طقوسها ،ولها إجراءات ،ونحن طبقنا هذه الإجراءات بشكل كامل" .