مقالات
بغداد - الصباح
د.محمد فلحي
هل أصبح العسكريون خارج لعبة السلطة في العراق، وهل انتهى دورهم السياسي، ولم تعد هناك فرصة للانقلابات والمؤامرات التي صبغت المشهد السياسي، طوال أكثر من نصف قرن!؟.. أسئلة تطرح نفسها كلما اشتدت الأزمات وتصاعدت الاحتجاجات، وفشلت الديمقراطيات في تحسين ظروف الحياة في العراق مثل الكثير من الدول النامية، التي تعرضت للاحتلال ثم استقلت من الهيمنة الأجنبية، بنيت على أربع ركائز أساسية؛ الأولى المؤسسة العسكرية، والثانية التنظيمات الحزبية، والثالثة الزعامات القبلية، والرابعة المراجع الدينية،
وقد توزعت الأدوار واختلفت وتغيرت المواقع، وفق المتغيرات الداخلية والخارجية، لكن العسكر كانوا الأكثر قوة وتنظيماً في مسك السلطة، وفي الوقت نفسه هم الأكثر شراسة في الصراع حولها، لذلك وصفت عهود الحكم العسكري بعدم الاستقرار السياسي، ومن ثم فإن ما يرد لاحقا ليس أكثر من محاولة لاستكشاف موقع العسكريين في النظام الجديد، وليس دعوة لعسكرة النظام أو تشجيع الانقلابات!
من أبرز مشاهد تغيير نظام الحكم في العراق، بعد الاحتلال الأميركي، العام 2003، غياب أو تغييب القيادات العسكرية المعارضة أو المنشقة عن النظام السابق، حتى من كان منهم يحمل رتباً عالية، ويمتلك صفات قيادية، وكان بعضهم من أشد المعارضين لحكم صدام، الطامحين في تولي مناصب رفيعة في تشكيلة النظام الجديد الذي بدأ خطواته بقرار من الحاكم الأميركي بريمر يتضمن تفكيك القوات المسلحة السابقة، إثر الانهيارات والهزائم العسكرية في حروب خاسرة متتالية، وآخرها الحرب ضد أميركا!
اعتمدت المملكة العراقية بعد تنصيب فيصل الأول ملكاً على العراق العام 1921 على كوكبة من الضباط السابقين في الجيش العثماني من أبرزهم نوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي وعبد المحسن السعدون وجميل المدفعي وبكر صدقي وعبد اللطيف نوري ومحمد أمين زكي وأرشد العمري وطه الهاشمي وغيرهم، وقد تناوبوا على تولي مناصب عسكرية ومدنية عالية، حتى سقوط النظام الملكي، لكن توازن الحكم الملكي كان يقوم على تداخل الأدوار بين البلاط والقيادات الحزبية والعسكرية والقبلية والنفوذ البريطاني، وكان الموقف البريطاني يخشى من تدخل العسكر المتزايد في السلطة، وعارضت بريطانيا ومن يتبعها من كبار الاقطاعيين العشائريين تطبيق التجنيد الإجباري، ويروي مؤرخ العهد الملكي عبد الرزاق الحسني في كتابه (تاريخ الوزارات العراقية) أن الملك فيصل الأول كان يريد تطوير الجيش لضمان استقلال البلاد وسيادتها لكنه كان يصطدم بالرفض
البريطاني!
مواقف عديدة من الصراع على السلطة في تلك الحقبة، يسردها الحسني، وكان العسكريون، في الأغلب هم صناع الأحداث المهمة، مثل انقلاب بكر صدقي في العام 1936 في عهد الملك غازي الذي أدى إلى إسقاط حكومة ياسين الهاشمي، ذلك الانقلاب الذي وصف بأنه أول انقلاب عسكري شهدته المنطقة العربية في القرن العشرين، وجرت خلاله عملية اغتيال وزير الدفاع حينذاك جعفر العسكري، ثم بعد مدة قصيرة قتل بكر صدقي في الموصل على يد أحد الجنود، وتوالت تدخلات العسكريين في الشؤون السياسية، وبلغت ذروتها في حركة رشيد عالي الكيلاني العام 1941 في محاولة لاستغلال ظروف الحرب العالمية الثانية والتخلص من الهيمنة البريطانية، لكن تلك الحركة قمعت من قبل الملك والإنجليز، وأعدم أبرز قادتها، في حين نجا الكيلاني هارباً إلى السعودية!
لعل من أبرز مثالب العهد الملكي تكريس الانقسام العرقي والديني والطائفي، الذي تجسد في صورته الصارخة في المؤسسة العسكرية وقياداتها!
في صبيحة يوم 14 تموزيوليو العام 1958 دخل العسكريون معاقل السلطة بدباباتهم لإسقاط النظام الملكي، وإقامة النظام الجمهوري العسكري، فقد تولى الزعيم عبد الكريم قاسم رئاسة الوزراء والقيادة العامة للقوات المسلحة ووزارة الدفاع، ونصب شريكه عبد السلام عارف نائباً للقائد العام ووزيراً للداخلية، ولم يتركا للآخرين سوى سلطة شكلية، ولم يتأخر الخلاف ومن ثم التآمر بين الشريكين المتزاحمين على الكرسي الأول الذي لايتسع عادة إلا لشخص واحد، وهو ما أدركه قاسم مبكراً فاتهم عارف بمحاولة اغتياله وحكم عليه بالإعدام، ولم ينفذ الحكم، كما عاد رشيد عالي الكيلاني من القاهرة، بعد أيام من الانقلاب، وهو يحلم بالرئاسة متعكزاً في شيخوخته على تاريخه النضالي، لكن قاسم كشف طموحاته السياسية، وحاكمه، وحكم عليه بالإعدام ولم يعدمه أيضاً، وبعد تصاعد نفوذ الشيوعيين في مواجهة القوميين شهدت الموصل تمرداً عسكرياً في آذار العام 1959 بقيادة العقيد عبد الوهاب الشواف، الذي قتل خلال ساعات، وأعدم أبرز شركائه في التمرد ومنهم ناظم الطبقجلي وحكمت الحاج سري. وفي تشرين الأول من العام نفسه جرت محاولة اغتيال قاسم في شارع الرشيد من قبل حزب البعث!
انتهى حكم قاسم في 8 شباط العام 1963 بحركة دموية نظمها البعثيون والقوميون، وتم إعدامه في اليوم التالي، وتولى صديقه السابق عبد السلام عارف رئاسة الجمهورية، ثم انقلب عارف على البعثيين وحرسهم القومي، وقُتل العام 1965 في حادث سقوط طائرة عمودية قرب البصرة، وتولى الرئاسة شقيقه الفريق عبد الرحمن عارف، الذي واجه مؤامرات عدة من ابرزها تلك التي قادها الفريق الطيار عارف عبد الرزاق وهو نفسه من سبق أن قاد محاولة انقلابية فاشلة في عهد عبد السلام، وكان البعثيون، وأغلبهم من الضباط التكارتة، يتربصون الفرص للعودة إلى الحكم، وذلك ما وقع في انقلاب 17 ثم 30 تموز العام
1968!
حكم البعثيون من خلال الثنائي العشائري أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين، الذي صفّى الشخصيات العسكرية البارزة مثل حردان التكريتي وصالح مهدي عماش، ثم انفرد في السلطة بعد اقصاء البكر العام 1979 وارتكب بعد أيام مجزرة قاعة الخلد بإعدام كبار القياديين البعثيين المدنيين والعسكريين المنافسين المحتملين، واستطاع تمهيد الطريق لحكم الفرد والأسرة والعشيرة، وكان ضباط الجيش المحترفون مجبرين على خوض حروب بقرار صدامي، وهم يموتون ألف مرة يومياً، قهراً وظلماً وخوفاً، فقد أصبح إعدام أي ضابط أسهل من شربة ماء، كما يقول أحدهم!
لم يكن صدام عسكرياً ولا وزراؤه المقربون، لكنه ارتدى أعلى رتبة عسكرية مزورة، وفرض على كل المسؤولين الكبار الزي العسكري وقام بعسكرة المجتمع كله، وراح يمارس سلطته وفق نظام فردي قمعي، وخاض ثلاث حروب كبرى خاسرة خلال ربع قرن، ومن ثم واجه نهايته المعروفة!
لا ينكر أحد أن الشخصيات العسكرية المهنية تتسم عادة بالدراسة العلمية وروح القيادة ومعرفة استخدام الأسلحة، والانضباط واللياقة العقلية والبدنية، والقدرة على إصدار الأوامر وتنفيذها، وأن وجودهم في بعض مواقع السلطة يضفي عليها صبغة حازمة، وبخاصة في أوقات الأزمات، لكن كثيرا من العسكريين السابقين الذين رافقوا صدام في بعض حروبه، ثم انشقوا وهربوا لم يستوعبهم النظام الديمقراطي لعدة أسباب:
1- إن أغلبهم فقدوا نفوذهم وسلطتهم بفقدان رتبهم العسكرية، ولم تكن لديهم قاعدة شعبية أو تاريخ سياسي، وخصوصا أن أغلبهم من كبار السن، في حين ظل تاريخهم العسكري يلاحقهم عندما كانوا ضمن الآلة الحربية، ولن يستطيعوا أن يمحو من ذاكرة العراقيين صورتهم السابقة رغم تغير مواقفهم وصدور مؤلفاتهم وتصريحاتهم ضد النظام السابق!
2- إن الضباط المعارضين المنشقين لم يجمعهم بعد خروجهم من العراق في الثمانينيات والتسعينيات أي تنظيم سياسي، ولم ينزعوا من عقولهم الصفة العسكرية، وراحوا يطرقون أبواب الأحزاب التي شجعتهم على الانشقاق واستقبلتهم في الخارج، لكنها لم تسلمهم موقعاً حقيقياً في المعارضة خشية كونهم جواسيس للنظام أو طمعهم في السلطة أو الخوف من تكرار الحكم الدكتاتوري!
3- إن منظومة الفساد وبيع المناصب وشراءها لا يمكن أن تقبل أي شخصية وطنية مهنية مستقلة ونزيهة، وربما من محاسن بعض الشخصيات العسكرية المعارضة السابقة أنها رفضت الخضوع للإغراءات والاندماج في هذه البيئة الملوثة، وحافظت على سمعتها ولكنها فقدت فرصة أي موقع في السلطة، ولا ينبغي أن يندم أحد منهم على منصب ضائع!
4- إن الصراعات الدموية والحروب والانقلابات العسكرية التي شهدها العراق وبلدان عربية أخرى، خلال القرن العشرين، لم ولن تغيب عن ذاكرة الشعوب، فقد كانت تجارب قاسية لم يعد محتملاً تكرارها في القرن الحادي والعشرين، الذي يسير نحو الديمقراطية والعولمة والحروب
الناعمة.