بغداد- واع- علي جاسم السواد
ليست رحلتي الأولى عبر مطار بغداد الدولي، لكن هذه المرة اختلفت تماماً، لأنني في مهمة رسمية برفقة رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي ممثلاً عن وكالة الأنباء العراقية (واع) لزيارة محافظة نينوى، في الذكرى السادسة لاحتلال عصابات داعش الإرهابية لمدينة أم الربيعين.
انطلقت الطائرة من بغداد تشق السحب، وكلما مضى الوقت كنت أتساءل: كيف سنجد مملكة الحضارات؟ وهل عادت البسمة إلى ثغرها؟ طوال الرحلة وأنا أحدق برئيس الوزراء ،وهو ينظر الى الوطن، ورأيت في عينيه عشقاً وحباً وأملاً ممزوجاً بمشوار طويل ،تنتظره مشاكل وتحديات كثيرة ومعوقات جسام.
رحلتي كصحفي أرافق رئيس الوزراء تتعدى شروط المهنة ومعاييرها، لأنني لم أكن برفقة أعلى مسؤول في الدولة وعلي الالتزام بالبروتوكولات والأعراف، بل كان إنساناً كيساً يعامل الجميع بود وتواضع وتقدير، جاء إلينا وكنا سبعة صحفيين وقال: " شرف كبير لي أن تكونوا برفقتي"، وأخذ يتحدث مع الجميع وكأنه صديق نعرفه من مدة طويلة.
حطت الطائرة في قاعدة القيارة وكانت محطتنا الأولى، وتذكرت حينها عمليات تحرير الموصل ،وكيف كانت هذه القاعدة منطلقاً للعمليات حتى تحقيق النصر على الإرهاب، لم نقض في القاعدة إلا وقتاً قصيراً جداً حتى استقلينا طائرات نوع هليكوبتر لتحلق بنا بمسافة قريبة من أرض الموصل، وكانت فرصة لنطلع على حجم الدمار الذي تعرضت له المدينة على يد تلك العصابة الإجرامية.
متحف الموصل
بعد أن وصلنا الى مقر عمليات نينوى، عقد رئيس الوزراء اجتماعاً مع القيادات الأمنية ،ومن ثم تحركت بنا المركبات بين الأحياء والأزقة باتجاه جسر الحرية ،الذي يقع على نهر دجلة ويربط بين حي الفيصلية الواقع في الجانب الشرقي للموصل وبين مركز المدينة في باب الطوب في الجانب الغربي من المدينة، قطعنا الجسر مشياً باتجاه متحف الموصل، تجول الكاظمي بين أروقة المتحف والحزن بدا واضحاً عليه ،لما شاهده من تجسيد حقيقي لوحشية داعش الإرهابية ومحاولتها طمس حضارة وثقافة المدينة، كانت مشاهد الخراب والدمار مؤلمة، وتحدث رئيس الوزراء الى المسؤولين على هذا المتحف قائلا: "إن الذاكرة مهمة جداً، وتصنع هوية وطنية عراقية جديدة، وتجربة الموصل نجحت في صناعة وعيّ كميّ عراقيّ بالولاء الوطني والمحافظة، ويجب إعادة هذا الصرح ،لأن هذا الإرث أمانة في أعناقنا ومثلما نفتخر بأجدادنا يجب أن نجعل أبناءنا يفتخرون بنا".
الكاظمي: إن الحدباء رمز تاريخنا ويجب أن تعود
انتهت الزيارة الى متحف الموصل لتبدأ رحلة أخرى لا تقل ألماً بعد أن اتجهنا الى المدينة القديمة، شقت المركبات طريقها بصعوبة بين أزقة هذه المدينة، ترجلنا صوب جامع النوري، وكأن صوت أزيز الرصاص ما زال مدوياً، وكأن أصوات البيوتات الخربة تستغيث برئيس الوزراء الذي بدت ملامح الحزن الشديد عليه ،وهو يرى هذا المشهد، تحولنا بين أروقة الجامع ووقفنا أمام بقايا منارة الحدباء، على الرغم من أن المنارة لم يبق منها إلا قاعدتها، إلا أن كل واحد فينا كان يراها شامخة بضميره، رئيس الوزراء تحدث عن هذا المشهد قائلا: "إن الحدباء هي رمز تأريخنا ويجب أن تعود ،والظروف التي شهدتها الموصل قبل 2014 لن تتكرر، وتعاملنا مع المواطن على أساس المواطنة وليس على أساس الانتماء الطائفي أو القومي العرقي، فالمواطنة هي المعيار، ويجب أن نحمي العراق، والموصل يجب أن تعود حدباء، وهذه فرصة لبناء تجربة جديدة، ونشكر منظمة اليونيسكو ودولة الإمارات وكل من وقف مع العراق في إعادة هذا المشروع، الآن يجب أن نصنع تاريخاً جديداً بإعادة الحياة الى هذه المدينة والتفكير بالمستقبل".
لقاء أبناء المدينة
قبل مغادرة المدينة القديمة نظر إلينا رئيس الوزراء وقال: "أتمنى أن أحول هذه المدينة الى متحف حيّ كبير لتكون شاهداً على وحشية الإرهاب ولتكون درساً تأريخياً للأجيال"، غادرنا المدينة القديمة باتجاه مقر الحكومة المحلية، وكان أبناء المدينة وشيوخ العشائر ينتظرون اللقاء بالكاظمي، وكان الحوار صريحاً، تحدث خلاله رئيس الوزراء على أهمية التعايش والتنوع في محافظة نينوى والتحديات التي تواجه الحكومة في المرحلة الراهنة لمواجهة جائحة كورونا، في ظل أزمة مالية تسبب بها انهيار أسعار النفط العالمية، واستمع الكاظمي الى مطالب الحاضرين ،التي تتعلق بالإسراع بإعمار المدينة وإعادة النازحين ووعد بمتابعتها كما وعد ممثلي العشائر والوجهاء بعقد جلسة لمجلس الوزراء في مدينة الموصل، تخصص لمناقشة أوضاعها واتخاذ القرارات بشأنها.
الكنائس تعزف لحن الوطن
غادرنا مقر الحكومة المحلية باتجاه سهل نينوى وتحديداً صوب ناحية برطلة في قضاء الحمدانية، واستقبل أبناء المدينة بمختلف مكوناتهم الوفد وتمت مناقشة أهم مشاكلهم واحتياجاتهم، وأكد الكاظمي أهمية التنوع الذي يعد هوية تأريخية تتميز بها الموصل في جميع مدنها وأحيائها، وأشار إلى أن التنوع في العراق كان وما زال يمثل قوة وليس ضعفاً، ويفخر العراق بهذا التميز الجميل في التنوع، ولا يوجد خيار أمامنا سوى المحبة والتسامح والتعايش السلمي بين مكونات شعبنا.
وبعدها زار رئيس الوزراء كنيسة (مار أدي) في منطقة كرمليس ،والتقى بالمطران ميخائيل نجيب والأب الخوري ثابت بولص، وشدد الكاظمي على أن المكوّن المسيحي من المكونات الأصيلة في العراق، ويحزّ في نفوسنا أن نراهم يهاجرون الى خارج البلد، وأكد أن الموصل نجحت في توحيدنا، وأن المشروع الوطني هو خيارنا الوحيد من أجل نهضة وازدهار البلد.
وبينما تتحرك بنا المركبات بين سهول وأودية الحمدانية كنا نطالع جمال المدينة وسحرها، ويشع بين ثناياها إرث حضاريّ عصيّ على الإرهاب، توقفنا قليلاً أمام مستشفى الحمدانية واطلع رئيس الوزراء على حجم الخدمات المقدمة، وبعدها زار قائممقام الحمدانية وكان في استقباله أبناء المدينة ،وهم يرتدون زيهم الشعبي، وأجرى الكاظمي جولة راجلة في المدينة وزار أحدى الكنائس القديمة واطلع على حجم الدمار الذي تعرضت له هذه الكنيسة.
النمرود مخيمات الوجع
غادرنا الحمدانية باتجاه مخيمات النازخين في النمرود وتحديداً اتجهنا الى "مخيم السلامية"، كان الناس بانتظار رئيس الوزراء وعيونهم ترنو صوب بصيص أمل يحمله هذا الرجل الذي أبى أن يغادر المدينة من دون أن يزور أهله وأبناءه من النازحين، المخيم كان كبيراً ويضم العائلات التي نزحت من مناطق البعّاج والحضر وربيعة، فضلاً عن النازحين من الساحل الأيمن لمدينة الموصل، الذين اضطروا الى ترك منازلهم إبان اغتصاب عصابات داعش الإرهابية لمدنهم، استمع رئيس الوزراء الى مطالب النازحين بحرص، وتفاعل مع جميع تلك المطالب
ووجه دوائر المحافظة بإعداد قوائم شاملة وتفصيلية لأعداد النازحين واتخاذ الإجراءات اللازمة التي من شأنها تقليل معاناتهم وتسهيل عودتهم الى مناطق سكناهم الأصلية، وتعهد بأن تعمل الحكومة بكل قدراتها لأجل إيجاد حل دائم لمشكلة النازحين، وإنهاء معاناتهم.
انتهت الرحلة بعد يوم طويل اطلعنا به على حال الموصل، وقلوب أبناء المدينة ودعت رئيس الوزراء، وكلها أمل أن يعود ربيعها عازفاً أنشودة الوطن ، وطن سيشهد ربيعين لأم الربيعين ، ربيع طيبة أهلها ،وربيع زهوها وانتصارها على الإرهاب الهمجي.