مقالات
أ.د. رياض موسى سكران / جامعة بغداد
على الرغم من أن عدداً كبيراً من المواقف النقدية الأكاديمية ضمن إطار المؤسسة الجامعية قد كشفت عن ملابسات السلوك الإداري للقيادات الجامعية، ودعت الى الانفتاح والتحرر من عقد التمركز والانطواء, وأشرت إشكاليات جوهرية في بنيتها الثقافية الأساسية، إلا ان مخرجات تلك المواقف لم تتبلور على صعيد الممارسة التطبيقية, وبقيت تلك المواقف أسيرة المعطى التنظيري من دون أدنى استجابة أو تفاعل من الطرف الآخر, المعني بإتخاذ القرار..
ولأن المؤسسة الجامعية تعد المختبر الأصلح والفضاء الأرحب والميدان الأقدر لبلورة رؤى جديدة تنعكس فيها وخلالها الحاجات الحقيقية لتعاضد الفعل الثقافي بأنساقه المتعددة مع إشكالات الواقع الراهن, من هنا, لا بد من لجامعاتنا أن تؤسس لمفهومات سلوكية محدثة تتماهى في إطار (ثقافة جامعية) عملية فاعلة, تقرأ حاجة المجتمع عبر رؤية أكاديمية منهجية متوازنة قادرة على رؤية الأفق المستقبلي.
ونحن إذ نتوقف هنا عند ملف (ثقافة القيادات الجامعية), لأننا نؤمن بقدرة الثقافة, بوصفها سلوكا قبل أي شيء آخر, على تبني مشروعات الحداثة والتجديد والقدرة على قيادة المجتمع, ومثل هذا الأمر يستدعي بالضرورة أن تتحرك جامعاتنا العراقية بقوة نحو تمثُل (سلوك ثقافي) فاعل ومؤثر, يقف عند التحولات الثقافية والسياسية المتسارعة التي يشهدها راهن الحياة وإشكالياتها المتداخلة, والاستعداد للتعاطي مع ضرورات صناعة المرحلة المقبلة وتتبنى اشتراطاتها وصياغة
شكلها.
من دون كشف وتشخيص السلوكيات السلبية التي تمارسها القيادات الجامعية، والاعتراف بها من أجل معالجتها وتخطيها وتجاوزها, فإننا سنظل ندور في حلقات متكررة، ودورات حتمية تتكرر فيها البدايات ونصل فيها الى ذات النهايات, بشكل يجعلنا رابضين دوماً في آخر الصف, نائمين في سبات عميق في ليل معتم طويل لا آخر له، بكل ما يترتب عن ذلك الدوران من شعور بالتراجع، أو السير بالاتجاه المعاكس، إن لم نقل إنه الاتجاه الخاطئ, وليس في ذلك مبالغة، فالحركات الإصلاحية في نهاية القرن التاسع عشر كانت تبدو أكثر حداثة منها في مرحلة ما بعد الحداثة وبدايات الألفية الثالثة، وما سمي بـ(الفكر التجريبي) كان يبدو أكثر التصاقاً بالخطاب الجديد، ومشروع الحداثة خلال السنوات الأخيرة تراجع إزاء مخرجات الربيع العربي وانكفأ جراء صدمة الواقع وهزائم الدكتاتوريات أمام كشوفات الثورات المعرفية ورغبة المجتمعات بتغيير واقعها الذي بات متخلفا عن مجمل تطورات الفكر الإنساني واشتراطات الحياة الحرة الكريمة.
ولأن ثقافة الإدارة تقترن بمنظومة من التحديات في جميع العصور، ذلك لأنها دائمة الارتباط بالمعنى الخلاق للتجديد الذي من دونه سيبتعد السلوك الإداري عن حقيقة وصفه روحاً ورمزاً مستمراً لمشروع بناء الدولة وخططها الستراتيجية في إدارة المؤسسات, ومنها مؤسسات التعليم العالي المتعاضد مع عقل المجتمع لتلبية حاجاته وتحقيق تطلعاته.. من هنا لن نستغرب الحديث عن (تحديات) في سياق السلوك الإداري, وكأننا نتحدث بمرجعيات نستعيرها من سجالات امتدت منذ زمن صراع الإنسان من أجل البقاء, ثم تكررت في سياقات متعددة..
ولعلنا في محاولة بحث هذا الموضوع, سندرك بأن تحديات واقع القيادات الجامعية, ليست قوى تقع خارجنا، فهي ليست تهديدات ومؤامرات تحاك لنا، وهي ليست عوامل متصلة بنموذج غير نموذجنا الذي نحيا به ونقرره ونختاره، في ضوء ذلك فان التحديات هي قوانا المهيمنة التي تنتجها ثقافتنا وليست ثقافة أخرى ينتجها غيرنا، لذا لم تكن تحديات التجربة الثقافية للقيادات الجامعية متبدية فقط بمقارنتها بالتقدم والتجدد المتسارع في ثقافة الآخر، وإنما في العقد الجاثمة في دهاليز ثقافة الذات المنطوية والمنكفئة على نفسها، وتعمل بعقلية المؤامرة التي تستوجب إقصاء وتهميش كل من يؤشر حضوراً ثقافياً أو يحقق منجزاً علمياً أو يترك أثراً أخلاقياً وتربوياً طيباً, وهذه إشكالية عميقة تقتضي التحرر من عقدة الآخر، ومن نظرته المركزية أيضاً, من هنا يمكن أن نقرأ العديد من الإشكاليات الثقافية للقيادات الجامعية العراقية، سواء في محاذيرها من الآخر، أو في أوهامها وأحلامها إزاء أفكار وسلوك التفاعل مع ذلك الآخر..
ولأن ثقافة القيادة الجامعية تنبغي أن تُمثّل وتُجسّد الكيفية التي ننتج بها ما نفكر به وفيه, وما نقوله ونسلكه، ونشكل به المجتمع الذي نعيش فيه, فإنها لا بد أن تحفل بما نحن عليه من تنوع واختلاف وتغير وثبات واتفاق واختلاف، ومثل هذا التأطير النسبي، بمنأى عن أي نخبة ومع كل نخبة في آن واحد، وبمنأى عن أي إنحياز لحقل أو نوع أو جنس أو نظرية أو فلسفة أو مادة, ومعها جميعاً في ذات الوقت.. فضلا عن ان مثل هذا التحديد, يقر بالتنوع والتجدد إقراراً جلياً لا يقبل اللبس، أي إننا حين نذهب الى القضايا الثقافية ومستقبلها، لا ينبغي أن نذهب ونحن مدججون بقراءات مسبقة وبأحكام جاهزة وبمواقف قبلية أو بأي قالب نمطي أو مفهوم نخبوي آخر, على الرغم من وجود قوى مهيمنة بقوة على ثقافتنا، وهو نمط (الاستبداد)، الذي شكل نسقا يحرك وعي القيادات الجامعية العراقية, نظراً لتراكمات منحدرة من التاريخ والميثولوجيا وكل ما صنعه الماضي من تعاضد أو دعم لنسقية هذا المفهوم, واتساع الحيز الثقافي للنمطية السائدة في إنتاج الأفكار أو في الخطاب بشكل عام, هذه الذاكرة النسقية المهيمنة, ظلت تشحن الوعي الفردي والجماعي الى الحد الذي أصبحت لدينا تجليات نسقية لا حصر لها، فالكثير من المتصدرين للقيادة يرفضون الى الآن الحديث عن التنوع والتباين والإنفتاح على الآخر، ويرفضون التنوع ويصرون بشدة على أحادية الرؤية رغم أن هذه الأحادية وهذا التفرد أدى الى تشنج وإنكفاء وتقوقع مؤسساتنا الجامعية..
ولأننا نؤمن بقدرة جامعاتنا العراقية على بلورة أفكار ومشروعات حداثوية ومتجددة تنعكس فيها قدرة الجامعة على تلبية حاجات المجتمع, وإن كان مثل هذا الأمر يستدعي الى حد الضرورة القصوى إيجاد قيادات جامعية جديدة قادرة على اقتراح وتبني مثل هذه الرؤى والتصورات برؤى منفتحة, بعيدا عن النمطية الروتينية في الأداء الإداري, تلك النمطية التي لفظتها التحولات الفكرية والعلمية المتسارعة والتي أفقدت الكثير من مؤسساتنا الجامعية ماهية وجودها وجوهر فلسفتها وحيوية دورها, وإن كنا نلمح بوادر التغيير الذي تشترطه المرحلة الراهنة قادم لا محالة, والتي نأمل إن تتماهى إجراءات مثل هذا التغيير مع طبيعة وحجم التحولات الثقافية والعلمية والسياسية الراهنة التي تشهدها تحولات الواقع الجامعي في دول المنطقة على الأقل, والاستعداد العالي للتعاطي الواعي والمنفتح مع متغيرات المرحلة القادمة وتبني اشتراطات تشكل رؤانا التي تؤكد هويتنا الخاصة والمتفردة, والتي نرى بأنها تقوم من خلال الأسس والمنطلقات:
أولا: مراجعة المخرجات الأساسية لتجربة القيادات الجامعية العراقية مراجعة أكاديمية موضوعية في ضوء ما آلت إليه النتائج وما أشرت من مستوى متدني على أرض الواقع العلمي والثقافي, وانطلاقاً من الاعتبارات الآتية:
أ- التعامل مع الموقع القيادي بوصفه فضاءً يتسع للتنوع الثقافي ويستوعب المتغيرات الاجتماعية، ومن ثم لا بد من أن تحتضن الجامعة فكرة التجديد في القيادات, لضرورات تجديد الرؤى والافكار والأساليب, في نطاق يحررها من النسقية، وهذا بدوره يحرر القيادات نفسها من رؤاها المغلقة, ويجعلها تعيد صياغة مفهوم القيادة بوصفه مجموعة سلوكيات تحترم حق الآخر وتتضامن معه.
ب- التخلي المفاهيم الحتمية، مثل القول بحتمية البقاء على رأس قيادة المؤسسة، ومعالجة ذلك بإصلاحات علمية وعملية, نظرية وتطبيقية, وصولاً الى وحدة الاختلاف والتنوع.
ج- التحرر من عقدة المركزية النرجسية الضيقة من أجل الأرتقاء بالمؤسسة، مع ضرورة الانفتاح على الآخر، واستيعاب أفكاره وكشوفاته العلمية ومرتكزاته المعرفية, من دون وضع أي قيود نسقية تكرس أزمة الإقصاء والتهميش والتمركز على الذات.
ثانياً:- مراجعة تجارب القيادات الجامعية العراقية وتقييمها في ضوء مشروع حداثوي وتجديدي, من أجل تنقيته وبلورة أفكاره الواقعية بطريقة منهجية, والعمل على إعادة إنتاج تلك التجربة في سياق مشروع بناء الدولة الحديثة.
ثالثاً:- الخروج من دوائر التمركز الذاتي والدخول في دائرة الفعل والممارسة العملية المباشرة, من أجل امتلاك الثقافة الجديدة والمعرفة المتقدمة والثورة التقنية
العلمية.
رابعاً:- تفكيك المفهوم النسقي, المتحكم في سلوك القيادات الجامعية، عبر تجديد أنظمة القيادات الجامعية وتنميتها في اتجاه معاصر، على مستوى النظام الإداري والشخصيات القيادية والمناهج العلمية, وذلك بهدف تنظيم حياة مؤاتية لإنتاج ثقافة مدنية تشترك فيها الدولة والأفراد والمجتمع, على وفق تقنين أكاديمي علمي ممنهج مستمد من واقع الحياة, وليس من سجلات التأويل المنحرف أو من فرضيات جاهزة مستوردة لا يمكن أن تتطابق مع واقع الحياة العراقية واشتراطاتها الجديدة.
تنصيص / من دون كشف وتشخيص السلوكيات السلبية التي تمارسها القيادات الجامعية، والإعتراف بها من أجل معالجتها وتخطيها وتجاوزها, فإننا سنظل ندور في حلقات متكررة، ودورات حتمية تتكرر فيها البدايات