مقالات
كل بلدان "التحول الديمقراطي" تعاني من وجود أزمات حقيقية ترافق هذا التحول في سبيل الوصول إلى النظام السياسي الديمقراطي الذي يحكم الناس، وتبقى حوارات هذه المرحلة الانتقالية أي - مرحلة التحول باتجاه الديمقراطية - من أكثر المراحل صعوبة وخلافات نتيجة سياسات المرحلة التي سبقتها.
لكن انتقالية هذا التحول لا تبقى دون زمن محدد فلابد للانتقالية هذه أن تنتهي بزمن محدد يرسم آليات ووسائل وستراتيجيات التحول نحو الديمقراطية وكذلك لابد من وجود سقوف محددة تعمل تحتها جميع القوى السياسية ولا تتجاوز هذه السقوف حفاظاً على الحد الأدنى من الاستقرار السياسي الذي يمنع نشوب الحروب الأهلية والفتن الداخلية والعيش باستقرار يسمح للناس بممارسة حياتهم اليومية وإن كانت بلا تقدم وتطور ورفاهية، وهنا تكون حوارات هذه المرحلة محفوفة بالمخاطر والشد والجذب والصراع.
في العراق كان من المفترض أن تنتهي تلك المرحلة الانتقالية من النظام الدكتاتوري إلى نظام سياسي ديمقراطي تعددي يعمل تحت سقف دستور وسلطات منتخبة ومؤسسات يسيرها القانون وغيرها من مصاديق الأنظمة الديمقراطية، لكننا لم ننجح بالوصول بعد إلى هذه المصاديق ومازلنا في مرحلة التحول التي طالت كثيراً ولا يوجد عمل حقيقي بالوصول إلى منتهى الديمقراطية كنظام وممارسة تحكم البلاد.
لذا صار من الطبيعي بروز الأزمات في كل مرحلة انتقال من حكومة إلى أخرى تبرز معها الخلافات على أشدها وتتسارع وتتسع لغة التخوين والاتهام والابتزاز، ويبقى الحوار طريقاً للوصول إلى حل واتفاق وفي السنوات الماضية اعتدنا على جولات كبيرة من "أزمات الحوار" بين القوى السياسية أبّان تشكيل الحكومات.
ما يجري اليوم من حوارات في سبيل تشكيل حكومة جديدة تعمل على إنجاز انتخابات مبكرة وتحقيق مطالب المتظاهرين وسط هذا الخوف والقلق مما يجري في المنطقة والعراق جراء انتشار فيروس كورونا وعدم السيطرة عليه عالمياً مع ما يمتلك العالم المتقدم من الإمكانات الصحية الكبيرة يقابله تراجع كبير في واقعنا الصحي واستمرار التظاهرات وقبلها توصيات المرجعية الدينية التي رسمت مساراً لهذا التحول من خلال اختيار رئيس حكومة غير جدلي والتمهيد لانتخابات مبكرة، الأمر الذي وضع القوى السياسية أمام امتحان صعب وتحد حقيقي في الاستجابة للجمهور والامتثال لتوجيهات المرجعية وتحقيق مطالب المتظاهرين المشروعة ومن ثم الوصول إلى استقرار داخلي معتد به يسمح بإدارة عجلة العمل في البلاد وتجاوز العقبات.
يجب على القوى السياسية أن تعي اليوم في حواراتها أنها وسط أزمة ليست سياسية فحسب كالسابق وبالتالي من يملك نفساً أطول وأدوات أكثر في التفاوض يملك المبادرة ويحوز على مكاسب سياسية أكبر، - لا - عليهم أن يدركوا أنهم في " حوارات سياسية" يحيط بها مرض فتاك إن لم تتضافر الجهود للقضاء عليه أو الحد من انتشاره – لا سمح الله – فلن تنفع أية عملية سياسية، وعليهم أن يدركوا أن حواراتهم ومخرجاتها محاطة "برضا المتظاهرين" وتحت انظار المرجعية الدينية التي ترقب مدى التزام القوى السياسية بتوصياتها، سيما من ينتمون إليها، عليهم أن يدركوا أن عجلة العمل والاقتصاد وحتى التنقل مقيدة وشبه متوقفة منذ اندلاع التظاهرات ولا أمل ولا عمل لإنهاء تلك التظاهرات بالقوة ولا تسعى أي من القوى السياسية أو غيرها إلى التورط بذلك.
لذا فإن حوارات اليوم يجب أن تستحضر كل ذلك وأكثر وأن تفكر بشكل جدي في حلول حقيقية وسريعة وناجحة وأن كان على حساب استحقاقاتها ومصالحها السياسية والحزبية " المشروعة" لأن فترة التحول قصيرة زمناً تنتهي ببدء الانتخابات المبكرة التي لا تتجاوز عاماً واحداً وفق سقف التوقعات، وحكومة هذه الفترة ستكون مقيدة إلى حد مهمتها إيصال البلاد إلى تلك المرحلة، فالتنازل والمرونة والتفكير بالمستقبل مفاتيح مهمة لحل "حوارات الازمة" التي لابد لها أن تختلف عن سابقاتها.