ثقافة وفن
تنتظم الحواس الخمس في حركة دينامية متكاملة تبدو وكأنها في غاية الانسجام والانتظام والتوافق والتناغم فيما بينها، وكل حاسة من هذه الحواس تحتاج إلى مكان محدد وزمن معيّن كي تقوم بواجباتها على أكفأ حال ممكنة ومتاحة، فالحاسة البصريّة تحتاج إلى مسافة مناسبة تفصلها عن المرئي كي تبصره بدقة ووضوح وطمأنينة.
وتحتاج إلى زمن يطول أو يقصر بحسب بساطة المرئي أو تعقيد مكوّناته لتحيط بأجزائه جميعها ضمن رؤية كاملة، إذ يستحيل على العين أن ترى ما هو قريب جداً منها إلى درجة الالتصاق من جهة المكان، وما هو سريع وخاطف يمرق من أمام العين من دون أن تأخذ وقتها في رؤيته رؤية كاملة من جهة الزمن، فإذا كان الشيء المعروض للرؤية ملتصقاً بالعين في قرب شديد فإنّه يتحوّل إلى حجاب يمنع الرؤية، وكذلك إذا مرّ مروراً خاطفاً من أمام العين بحيث لا يمكن لها أن تلحظه كاملاً وتسجّل خصوصياته المطلوب رصدها على نحوٍ لا يحقق الرؤية الكاملة ويبقى في هذه الحال ناقص الرؤية.
في الحاسة السمعيّة تختلف العلاقة الزمنية والمكانية عنها في الحاسة البصرية اختلافاً بيّناً من حيث القرب والبعد ومن حيث السرعة والبطء، فعلى صعيد المكان تحتاج الأذنُ المسموعَ الأقربَ كي تضمن سماعه جيداً، إذ كلّما كان الصوت قريباً أتاح للأذن طاقةَ سماعٍ أجود وأوضح وأدقّ، ويمكن لها أن تلتقط حركة الصوت مهما كانت سريعة وخاطفة لأنّ إيقاعها يتلبّث متردداً في الفضاء السمعي طويلاً، وإذا ما كانت حركة الصوت بطيئة فقد يكون تلقّي الأذن لإيقاعها مرتبكاً وغير مناسب على نحوٍ ما، وهذا إنّما يعتمد على خبرة الأذن وتجربتها ومرونتها في التعامل مع الأصوات القادمة نحوها من أمكنة وأزمنة مختلفة.
توصف حاسة الشمّ بأنّها حاسة مكانية بوسعها أن تتعرّف على حالة المشموم في قربه الشديد من الأنف، فضلاً عن توفّر وقت كافٍ لتمثّله شميّاً والكشف عن خصوصياته الروائحيّة التي تقود إلى تكوين ردّ فعلٍ سلبيّ أو إيجابيّ تجاهها، ولعلّ تقريب المشموم من الأنف إلى درجة الإلصاق هو ما يجعل المسافة المكانية بينهما تكاد تتلاشى حيث تحصل على حالة الإشباع الشمّي، في حين لا بدّ من استمرار فعالية الشمّ مدة كافية للتمثّل والتدبّر للحصول على الرائحة المطلوبة ومعرفة امتياز المشموم وسماته النوعيّة.
تقوم حاسة اللمس هي الأخرى على حساسيّة الاقتران بالملموس اقتراناً مطبقاً، ذلك الاقتران الذي ينهض على علاقة حسيّة متبادلة بين اليد اللامسة والملموس فيها، تتحرّك بوساطة الضغط والفرك ما يتيح لهما الوصول إلى حكم بشأن قيمة الملموس، بما يقتضي وقتاً لا بأس به كي تحصل حالة من الإشباع اللمسي يجعل اليد اللامسة قادرة على تلقّي الإشارات المطلوبة من باطن الملموس، ومن ثمّ بلوغ مرحلة الحكم على ما يتمتّع به الملموس من ميزات خاصة مختلفة عن غيره يجعل لليد اللامسة بطاقتها الحسيّة القدرة على تمييزها.
أمّا الحاسة الأخرى وهي حاسة الذوق فإنّ أداتها "اللسان" الذي هو داخل جوف الفم لا يخرج إلا كي يتذوّق الأشياء ويصدر حكماً ما يميّز جيّدها من رديئها، وهو ما يوجب على صعيد المكان والزمن قرباً أكبر لا يكتفي بالالتصاق كما هي الحال في السمع أو الشمّ أو اللمس فحسب، بل التوغّل أكثر من ذلك نحو الدخول في جوف الشيء وأخذ قدر منه وتشغيل أدوات الفم الأخرى في تقطيعه ومزجه واستخراج طمعه، إلى درجة يتمكّن فيها اللسان من معرفة القيمة التي يتمتّع بها هذا الشيء ليكون طيّباً أو غير طيّب بعد أن يدخل الجوف، ويتوقّف ذلك أيضاً على خبرة اللسان ومرانه وثقافته ومزاجه في فحص الأشياء وإصدار حكم عليها في نهاية الأمر، على ما تتركه حاسة التذوّق من نتائج تصف الحالة المتذوَّقَة بناءً على مجموعة قرائن حسيّة ذوقيّة.
لا يمكن أن يكون عمل الحواس على هذا النحو منفرداً ومستقلاً بصورة كاملة وعازلة وعمياء، بل تخضع حركة الحواس لدائرة عمليّات مشتركة تتفاعل فيما بينها لتصل إلى حالة مثالية في الأداء والإنتاج، تنتهي داخل هذا الفضاء المشترك إلى نتائج مثالية تعكس جدل العلاقة بين أداء الحواس حتى حين تعمل كلّ حاسة منها عملاً منفرداً، يبدو وكأنّها لا علاقة لها بما يجاورها من عمل حواس أخرى على تماسٍ معها، إذ يستحيل فصل حاسة البصر عن حاسة السمع في رؤية شيء معيّن قد لا تكفي الرؤية المجرّدة لمعرفته من دون سماع صوته، وقيام حاسة السمع بإضافة قيم ومعلومات جديدة تساعد البصر في تكوين فكرة بصرية كاملة عنه تتيح الحكم عليه وتقويمه، ولا يسع حاسة الشمّ أن تعمل بأعلى طاقتها وكفاءتها بلا تدخّل نوعيّ معيّن من حاسة البصر وحاسة السمع أيضاً، إذ يضيف وجود الحاستين إمكانات جديدة لحاسة الشمّ كي ترتفع بعملها إلى أعلى درجة ممكنة، والشيء نفسه يقال عن حاسّة اللمس وهي تقتضي حضور حاسة البصر على نحوٍ أساسٍ وجوهريّ، إذ تعمل اليد والعين في سياق مشترك لتحقيق قوّة لمسيّة أكبر وأغنى، وفي الوقت نفسه لا يمكن استبعاد حضور الحواس الأخرى في نشاط الحاسة الذوقية التي تتدخّل الحواس جميعاً في صوغ أنموذج التذوّق في أرفع أشكاله وتجلياته الممكنة.
هذا التوحّد الجدليّ بين حركات الحواس وأفعالها ينتمي في جذره الأساس للجسد الإنسانيّ في فعاليته البشرية الطبيعية، وهي حواس حسيّة مباشرة ترتبط بالعقل ارتباطاً مباشراً، فهو من يحفّزها ويوجّهها ويحرّضها على الفعل والحراك، وهي عبارة عن أدوات تعمل بإمرته وتوجيهاته في سبيل المبادرة والكشف ونقل المعلومات الخاصة بالأشياء إلى العقل كي يحكم عليها، ومن ثمّ يُصدِر الأوامر الخاصّة بطريقة التعامل معها وتقويم النتائج التي تؤول إليها بصرياً وسمعياً وشمياً ولمسياً وذوقياً، فالحواس الخمس هي الأدوات الفاعلة في الميدان لكنّ العقل الماكث في المنطقة الخلفية هو من يسيّرها ويحثّها على العمل والتنفيذ والانتاج.