ثقافة وفن
بغداد - الصباح
تعرّفنا إلى الكاتب والأستاذ الجامعي بيري ساندر (Barry Sanders) مؤخراً عبر كتابين له صدرا بالعربية عن دار الرافدين في بيروت وبغداد هما (اختفاء الكائن البشري) وقد صدر في سنة 2018، وكتابه (الضحك) الذي صدر هذه السنة “2019” بترجمة أنجزها ببراعة المُترجم العراقي الصديق الشاعر سهيل نجم الذي تربطه بالمؤلِّف علاقة تواصلية تكلّلت بتعريف القارئ العربي بالمنجز الفكري لدى بيري ساندر الذي يغامر بالبحث والدراسة في قضايا ذات أهمية في حياة ووجود الإنسان.
ولنا هنا مطالعة في كتاب (أرواح غافلة .. اختفاء الكائن البشري) (Unsuspecting Souls The Disappearance of The Human Being ) الصادر بلغته الإنجليزية في سنة 2009 لما للإنسان من أهمية وجودية في ظل غياب هذا الكائن الذي تعرّض وما زال يتعرّض له في الحياة التي نعيش.
نقرأ في تقديم الكتاب ما يشبه المفتاح الذي يبيّنه المترجم عندما يقول: “يدرس هذا الكتاب الذي يمكننا أن نصنّفه ضمن مدرسة النقد الثقافي بوضوح مسألة اختفاء الإنسان Disappearance of The Human Being أو بالأحرى مسألة إخفاءه من خلال البحث في أفكار نخبة من مفكري القرن التاسع عشر مثل: فرويد، ونيتشه. وبعض مفكّري القرن العشرين مثل: جان بودريار، وجاك دريدا. وعبر دراسة الأعمال الأدبية لإدغار ألن بو، وأوسكار وايلد، ووليان بتلر ييتس، ودوستويفسكي، وأونوريه دي بلزاك، وويلز. فضلاً عن تحليل الإنجازات العلميّة تشارلز داروين، وتوماس أديسون، ولومبير، وأغلب إنجازات وإسهامات القرن التاسع عشر في تغريب الإنسان وخلق أشباح له أزاحته جانباً لتتصدّر هي المشهد”.
ومع أن “البشر لديهم القابلية على النقد الذاتي والاندفاع المستمر نحو التجدُّد”، ومع اللغة الشعرية التي تمتعت بها أدبيّة الكتابة لدى المؤلّف الأميركي فإن هذا الأخير يأخذنا إلى إشكالية الازدواجية في الطبيعة البشرية، وهو أمر يذكّرنا بأطروحة عالم الاجتماع العراقي علي الوردي (1913 - 1995) بشأن ازدواجية الشخصية؛ فنحن شئنا أم أبينا ترانا “نمضي بكوننا مخلوقات شيزوفرينية”! وهو موضوع يوليه بيري ساندر أهمية لافتة في فصول كتابه هذا عبر تأمُّل نماذج من نصوص أدبية وجمالية وفكرية ونفسية ظهرت في القرن التاسع عشر.
يعتقد بيري ساندر أن سبب ظاهرة الفقدان الكبيرة التي أدّت إلى اختفاء الكائن البشري هو «انهيار السلسلة الكبرى للوجود والولادة اللاحقة، وعوامل التآكل الأخرى مثل نشوء المكننة، وانفجار الاقتصاد الرأسمالي»، كلها سوّغت ظهور هذا الفقدان الكبير»، ويسمي كل ذلك «اختفاء الوجود الإنساني». جاء ذلك بعد أن يعرض المؤلف القناع الزائف لمنطق السياسات العاملة في القرن العشرين، لا سيّما السياسات الأميركية، وتعدّد صور الموت المصطنعة، والتعطش إلى النظر نحو الإنسان الخالي من الحياة، وظهور الأشباح والظلال بديلاً عن الإنسان، وكذلك يعرض للمخلوقات العجيبة التي تطرّق إليها إدغار ألن بو، وإلى الإحساس الجديد بالاختفاء كما عبرت عنها فرجينيا وولف في بعض من نصوصها الإبداعية السردية، ليس بعيداً عن جرائم الأميركان الجديدة في (سجن أبو غريب)، و(معتقل غوانتمو)، وكذلك حالة المغتربين والمهاجرين في (السجن الفيدرالي) بالولايات المتحدة الأميركية.
وفي خضمِّ ذلك يعتقد بيري ساندر بأنّ «التآكل في الجوهر الإنساني يمضي في سيره الهائج»، ولكي نأمل بتغير ما في العالم، علينا أن نستعيد إحساسنا بكينونتنا وبوعينا، فما الذي نعنيه بكوننا أحياء وأن نكون بشراً في هذا القرن الواحد والعشرين؟». وفي ظل هذا يرى المؤلّف أننا «ندفع ثمناً عندما لا نناقض فرضيات وتوجّهات حياة وموت الناس الآخرين».
ولا يتردّد بيري ساندر بالقول إن «محو الجوهر الإنساني جرى عميقاً وبقوة مهولة في تاريخنا»، ويؤكّد على أننا «جميعاً في مواجهة قوّة المحو المخفية والماكرة». ويعتقد أننا «ورثنا التعامل غير الإنساني مع الآخرين من القرن التاسع عشر» الذي شاعت فيه إشكال «التشويه» وتعدّدت صوره. ولا يقطع الأمل رغم كل الخراب الذي حل بالبشرية كون كتابه هذا يستند إلى اعتقاد راسخ بأن «البشر لديهم القابلية على النقد الذاتي المستمر والاندفاع نحو التجدّد».
ولذلك، علينا أن نفهم أنفسنا بكوننا وكلاء في تشكيل كل من الأفكار السياسية والاجتماعية، ليس من أجل إنقاذ أنفسنا فحسب؛ بل من أجل توسيع الوحدة التي نتقاسمها مع الآخرين»، فالمؤلف لا يفقد الأمل بالحفاظ على الجوهر الإنساني المتواري والمفقود والمتوارث من القرن التاسع عشر، ولا يفقد الأمل أيضاً بالحفاظ على التوازن الإنساني المختفي، ولذلك يقول إننا لا بد أن «نتطلّع إلى النضال المثابر من أجل إيجاد الجوهر الإنساني قبل أن ينفذ الوقت».
ويبدو لي أن بيري ساندر يؤمن بنظرية القوس والسهم؛ إذ يمكن تصحيح إحساسنا بأن نكون في القرن الحادي والعشرين، فالنظر إلى الوراء أفضل الطرق للتقدّم؛ أن نحرّك السهم إلى الأمام يعني أننا يجب أن نسحب القوس إلى الوراء»، وهو غاية فصول هذا الكتاب لا سيما عندما نسعى للحفاظ على الجوهر الإنساني من الضياع.
وعندما يدرس المؤلِّف القرن التاسع عشر في كتابه هذا فهو إنما يتعامل مع مُعطيات ذلك القرن من دون أن يخفي بأنه ما يرد عن ذلك ليس سوى «أطياف» وليس «مُجرّد تأريخ مفصّل»؛ فالأحداث «لا تأتي إلينا إلا بوصفها أطيافاً»، وكان يتمنى أن تكون لقطة لتلك المعطيات كما هي لقطة الكاميرا بواقعيتها، وهو أمر لم نحصل عليه، لكنه يعلنها صراحة بأن «كُل فصل من فصول كتابه هذا هو لقطة Snapshot”، من دون أن يغتر بقدرته الذهنية بتجسيد مُعطيات ما جرى في القرن التاسع عشر، وما جرى في القرن العشرين، وما جرى ويجري في القرن الحادي والعشرين كما لو أن كل واحدة من تلك المُعطيات هي لقطة تعبّر خير تعبير عن طبيعة الملقوط، وأن كل لقطة تكشف عن تسجيل “تأريخ فكرة اختفاء الجوهر الإنساني”. ولا يخفي صراحته بأنه يحاول عرض “صورة موجبة أظهرها عن صورة سالبة”، وكذلك يحاول في مشروعه أن يكون مشروعاً “للبناء والتركيب”، فهو يعمل “على آثار وبقايا معلومات”، إنه “يتحقّق”. ويتراءى للمؤلِّف بيري ساندر مشهد “الجرائم العنيف والمرعب، والمهم جريمة قتل الإنسان” منذ ظهورها في القرن التاسع عشر بوصف ذاك القرن “قاعدة” له في كتابه هذا، تلك الجرائم التي تواصلت حتى يومنا هذا.
في ضوء كل ذلك يأخذنا بيري ساندر إلى فصول الكتاب السبعة بعناوينها السلسة وهي: ما الحياة؟ وعندما مات الموت، وسارتان متأخرتان، ولا أحد ميت، وليس إلا الحياة، وجزيرة كوني والعقل، والقطة المتحوّلة إلى دراكولا. ويختم الكتاب بسيرة حياة المؤلف بيري ساندر، وسيرة المترجم سهيل نجم.
لقد أجاد سهيل نجم ترجمة هذا الكتاب من حيث الدقة والأمانة العلمية، ومن حيث كونه عراقياً على صلة متينة بالأنطولوجيا العراقية بقضها وقضيضها، لا سيما أن مؤلّف الكتاب يتطرّق في فصول كتابه (اختفاء الكائن البشري) إلى المسألة العراقية في بعض من أحداثها، فكان سهيل نجم على براعة التسمية لمفردات الأماكن وغيرها من عناصر الأنطولوجيا العراقية الجزئية، ناهيك عن خبرته بطبيعة الكتابة لدى بيري ساندر لكونه ترجم هذا الكتاب (أرواح غافلة .. اختفاء الكائن البشري) الصادر بلغته الإنجليزية في سنة 2009، وكتابه الأسبق (الضحك كونه تأريخاً هداماً) أو (Sudden Glory: Laughter as Subversive History) لسنة 1996 في خلال السنوات القليلة الماضية، فضلاً عن ارتباطه بصداقة مع المؤلِّف، وهو أمر سهّل على المترجم الكثير من مشكلات الترجمة لكون صداقتهما تقوم على الحوار والنقاش والتفاعل، كما أن اللغة الشعرية التي يكتب بها المؤلف والأدبية الراقية لديه ليست غريبة على سهيل نجم وهو الذي خبر الشعرية والأدبية في نصوصه الشعرية منذ سنة 1994 عندما نشر في ذلك ديوانه (فضُّ العبارة)، وترجماته الكثيرة إلى لغة الضاد منذ سنة 1990 عندما أصدر كتابه (مختارات من الشعر الإنجليزي) ترجماته لأكثر من عشرين كتاباً والتي عُرف بها في المشهد الترجمي العراقي والعربي.